للإبداع أجنحة

06-03-2019
د. حسن مدن

للإبداع، والثقافة عامة، أجنحة. إنها تحلق عالياً، غير آبهة بالحدود التي أقامها البشر لفصل بلد عن بلد، وقوم عن قوم، لأنها تحكي الهمّ الإنساني الواحد، غير آبهة بأي لغة تكلم هذا الإنسان، ولأي عقيدة انتمى.

لكن يظل اختلاف اللغات عائقاً بوجه الميل الفطري للثقافة في التحليق. لهذا، على ما يبدو، وجد المترجمون، الذين يفنون أعمارهم في ترجمة الأدب من لغة إلى لغة. أيكون المترجمون هم أنفسهم الأجنحة التي عبرها يحلّق الإبداع ويعبر الحدود، مجتازاً لا حدود الجغرافيا وحدها، وإنما حاجز اللغة؟.

أنا ميّال لهذا الاعتقاد. ولهذا القول اليوم مناسبة حزينة، فقد ودّعت الثقافتان العربية والروسية معاً، واحداً من أبرز رواد الترجمة بين اللغتين، وبالأساس ترجمة روائع الأدب الكلاسيكي الروسي إلى العربية، الدكتور أبو بكر يوسف الذي رحل عن دنيانا في موسكو، قبل يومين أو ثلاثة عن خمسة وسبعين عاماً.

قيل عنه إنه عميد المترجمين العرب، أو شيخهم، وعند الوقوف على منجزه المهم في الترجمة يجدر بنا السؤال: أليس المترجم، هو الآخر، مبدعاً شأنه شأن الكاتب، حتى لو لم يكن هو من ألّف الكتب التي صار بوسعها أن نقرأها بلغتنا، من خلاله؟.

مرة أخرى، أنا ميّال إلى ذلك، فبفضل أبو بكر يوسف وسواه ممن ترجموا عن الروسية، وهذا على سبيل المثال ليس إلاّ، صار بوسع القراء العرب، ومن أجيال مختلفة، أن يتعرفوا على بعض كنوز الأدب الروسي الثرية.

مثل المترجمين عن الروسية، فعل المترجمون العرب عن الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، وغيرها من لغات.

سافر يوسف المولود في الفيّوم، إلى موسكو في منحة دراسية في الستينات بصفته من أوائل الثانوية العامة، فأنهى دراسته حتى نال الدكتوراه في الأدب، وأقام في روسيا حتى نهاية حياته، وفي عام 2012، منحه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، «ميدالية بوشكين»، وهي من أهم الأوسمة التي تمنحها روسيا للأجانب، تقديراً لجهوده في ترجمة الأدب الروسي إلى العربية.

صدرت له ترجمات لمؤلفات أدباء روس، بينهم بوشكين وليرمنتوف وجوجول وجوركى وكوبرين وشولوخوف، وأشرف على إعادة طبع ترجمات المترجم الكبير سامى الدروبى لروايات ديستوفيسكي، ولكن المأثرة الكبرى للراحل، تظل ترجمته لمختارات من أهم أعمال أنطون تشيخوف القصصية والمسرحية التي صدرت عن «دار التقدم» في أربعة مجلدات.

في رحيله نستعيد قولاً لتشيخوف، الذي أحبّ أدبه وترجمه إلينا: «الناس المتنوّرون وحدهم المشوّقون والضروريون»، ربما لأن الحياة، بفضلهم، تصبح أكثر متعة. لقد كان واحداً من هؤلاء.

madanbahrain@gmail.com