النقاد الفضائيون

19-02-2019

قد تكون الفوضى الفكرية أنسب لتكون عنوانا لهذا المقال، لكن اخترنا «النقاد الفضائيون» بدل الفوضى ذلك أن صفة الفضائيين لازمة من لوازم ما يحدث في وسائل الاتصال الحديثة، وهي أقرب وصف إلى ما نريد الحديث عنه في هذه الكلمة القصيرة.

وبادئ ذي بدء تستطيع أن تتعامل مع الناس مهما كانت صعوبات التعامل مع بعضهم، ومهما كانت العلاقة التي تربطك بمن تعرف ومن تنكر إذا كانوا شخوصا أو ذوات معروفة موجودة ظاهرة على الأرض لمن يناظرهم ويحاورهم بعد معرفة المناظر والمحاور ووجودهما، كما هي طبيعة المواجهة بين الناس من موافق ومخالف، والمناقشة والحوار ممكنان وقائمان مع أشخاص وذوات تراهم وتحس بوجودهم، وليس مع من لا تراه ولا تعرفه ولا يتحقق وجوده فضلا عن قبول حواره ورأيه.

والخلافات والمشكلات لم تنقطع ولم يقل أحد الكلمة الأخيرة حتى لا يعترض عليه الناس ولا يخالفوه فيما يقول ويرى، وتعدد الرؤى والاتجاهات هو السنة الثابتة بين الناس في كل زمان ومكان، وكل ذلك محتمل بين المختلفين والمتناظرين، وهو الأمر الطبيعي والمعهود، وما غير ذلك هو الشاذ المختلف عليه، وهدف الجميع البحث عن الحقيقة رغم أن الحقيقة نسبية في كل القضايا الاجتماعية والثقافية، والجدل الذي يتناول الناس فيه شؤون الثقافة وشؤون الحياة بكل ما فيها من التنوع والاختلاف يبحث عن الحقيقة أيضا، ولا بأس أن تذهب أحيانا إلى ما هو أبعد من ذلك فتقبل مشروعية الجدل حولها وتعدد وجهات النظر في المسائل الثقافية والعلمية، تلك هي القاعدة الثابتة، وما سواها هو النادر والشاذ الذي يخرج عن القاعدة العامة.

وفي وجهات النظر تتسع دائرة الاختلاف واحتمال الصواب والخطأ، ومع ذلك يبقى أن كل ما يحدث معروف من يعمله ومن يقوم به ومن يحرض عليه، فيؤخذ كل بما كسبت يداه، أما فيما يسمى أدوات التواصل الحديثة فقد فتحت أبواب السماء لنوع من النقاد الفضائيين، ورفعت الحجب عنهم وأمطرت سماؤهم أراء وأقوالا لا تعرف من يقولها ولا من يطرحها ولا من يدافع عنها ولا من يختلف معك حول ما تقول وما تعمل.

والباحث الرصين أو صاحب الفكرة التي يعرضها قد يقع في حبائل هذه الآراء المجهولة التي لا تدري من يبدأ الاعتراض ولا تعرف المتحدث إليك، كل ما يراه صاحب الرأي أو يقرؤه هو من مصدر مجهول لكنه مصدر شديد الأذى لمن يحترم رأيه ونفسه ويعرض أفكاره بموضوعية وحرية، صاحب الرأي أو صاحب المشاركة الثقافية ملزم بطرح آرائه ومرئياته على الناس، ولا شك أنه يضع في حسبانه قطاعا كبيرا يعرف سلفا تنوعه فكريا وثقافيا واجتماعيا، ويعرف أن ما يطرح من رأي ليس مسلما به لدى الجميع، ويتوقع الخلاف لما يأتي به، ولا تجد من يطلق رأيا في قضية علمية أو فكرية أو اجتماعية وهو يعتقد أن الناس سيصفقون لما قال دون نظر أو تمحيص، هذه ليست مما نتحدث عنه في هذه الكلمة وليست هي المشكلة.

المشكلة العويصة أن هناك جيشا من المتربصين الفضائيين الذين ينتظرون الرأي العلمي الذي يبنى على الحقائق العلمية في أمر الدنيا ومنافع الناس، ويقضي أصحاب هذا الرأي السنوات الطوال في المعامل التطبيقية والمختبرات العلمية وينقطعون لبحوثهم ومعاملهم ليصلوا إلى نتائج يستفيد منها الناس أو يتجنبون أضرارها، فإذا كانت نتائج ما وصلوا إليه تخالف ما رسخ في عقول وأفئدة هؤلاء الفضائيين نزلوا من سمائهم وهبوا بلغة التبكيت والتنكيت دفاعا عما ألفوه وعرفوه من العادات البائدة التي قدستها الألفة والعادة والتقاليد، وسفهوا الآراء التي يرونها لا توافق ما عرفوا وألفوا من قضايا الحياة ومشكلاتها، مما يثير البلبلة ويحبط الأعمال التي تنال حظا من المصداقية والتثبت.

Mtenback@