ما بعد «وثيقة الأخوّة الإنسانية»

19-02-2019
د. يوسف الحسن

تابع العالم، بشغف وأمل، المبادرة الإماراتية الفذّة، لتعزيز ثقافة الحوار بين أتباع الديانات والمعتقدات المعتبرة، وترسيخ مفاهيم التسامح واحترام التنوع الإنساني، والعيش المشترك بين الشعوب، واعتبار التنوع الثقافي والتعددية الدينية، سنّة كونية ، وآية من آيات الله في خلقه.
لقد فتحت «وثيقة الأخوّة الإنسانية»، التي صدرت عن لقاء قداسة بابا الفاتيكان، والإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف، صفحة جديدة من الحوار الإسلامي- المسيحي، بشكل خاص، والحوار بين أتباع كنائس مسيحية أخرى ومعتقدات معتبرة، بشكل عام، وهو الحوار القائم على مبدأ (لتعارفوا وتعاونوا) على الخيرات والمسؤولية وعمارة الأرض، وحماية كرامة الإنسان، وهي قيمة أسبق من كل انتماء، أو هوية حضارية، وهي حصانة أولية للإنسان ثابتة له، بوصفه إنساناً، كرّمه خالقه وجعله خليفة في أرضه.
إن احتضان الإمارات لهذا اللقاء، وصدور وثيقة أبوظبي للأخوّة الإنسانية، رسالة واضحة بأننا في الإمارات، كدعاة خير وسلام ورحمة، عازمون على مواصلة الجهود، لنشر ثقافة التسامح في العالم، وترجمة مضمون هذه الوثيقة، بنوداً وروحاً، إلى حقائق على الأرض، ووقائع بين الناس، وبخاصة بين الأجيال الشابة، التي لم يصل الحوار الإسلامي المسيحي إليها، خلال العقود الماضية، بل ظل يراوح بين النخب.
في كلمته المميزة، أمام قمة الحكومات، التي عقدت في دبي قبل أيام، كشف سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي، عن عدد من المبادرات التنفيذية، التي تنوي القيادة الإماراتية القيام بها، لترجمة الوثيقة إلى حركة فاعلة على الأرض وبين الناس، من بينها؛ تأسيس «صندوق زايد العالمي للتعايش»، لدعم وتفعيل مبادئ هذه الوثيقة، ومن خلال مبادرات دولية، وفي قطاعات التعليم والثقافة والمعرفة والتنمية الاجتماعية، والبحوث الأكاديمية والترجمة، وتشكيل فريق دولي لرعاية الوثيقة ونشرها في العالم، وبرامج مبتكرة للشباب، لتعزيز ثقافة التسامح، فضلاً عن بناء ( بيت العائلة الإبراهيمية ) في جزيرة المتاحف السعديات.
لقد فتحت هذه الوثيقة التاريخية، الأبواب أمام كنائس مسيحية أخرى، أرثوذكسية وبروتستانتية، وطوائف مسيحية أخرى، لتنضم إلى هذه الوثيقة، وتنشرها بين أتباعها ومجتمعاتها، وبخاصة أن لهذه الكنائس مؤسساتها ومجالسها ومؤتمراتها، المعنية بالحوار بين الأديان الحية. وبالتالي فإن امتداد تأثير هذه الوثيقة والتفاعل معها، في مجتمعات هذه الكنائس غير الكاثوليكية، ضرورة قصوى، وهي كنائس لها دورها المؤثر في دوائر صناعة القرار والرأي العام، كدور البروتستانتية في أمريكا، والدول الإسكندنافية وعواصم شمال أوروبا، والأرثوذكسية في موسكو واسطنبول وأثينا وقبرص ومالطة وغيرها، وكذلك الحال مع الكنائس الشرقية العربية، وتنعقد منذ سنوات، مؤتمرات دولية دينية، لوضع شرعة دولية للتفاهم بين الأديان، وعلى غرار صيغة ميثاق الأمم المتحدة، وإنشاء منظمة دولية للأديان، تديرها لجنة تنفيذية على غرار مجلس الأمن الدولي.
ومن الضروري الأخذ بالاعتبار، المتغيرات الديموغرافية العالمية الراهنة، فالمسيحية اليوم ليست هي ديانة الرجل الأبيض الغربي وحده، وإنما هي ديانة الفقراء والملونين، في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، حيث يشكلون نحو ثلثي عدد المسيحيين في العالم، وكذلك الأمر ينطبق على المسلمين، حيث يعيش أكثر من ثلث عددهم في مجتمعات غير مسلمة، مسيحية وهندوسية وبوذية وخلافه، في أوروبا والهند وإفريقيا وروسيا والصين وغيرها. وهذا يعني أن التسامح واحترام التنوع والتعدد، هو ضرورة للعيش المشترك، وبسلام ووئام في هذا العصر، والبديل هو الصراع والاقتتال والكراهية الجماعية.
ومن وحي تجربتي في الحوار الإسلامي المسيحي، خلال العقود الأربعة الماضية، فإن مبادرات الحوار، كانت تأتي على الأغلب من الغرب المسيحي، وكانت تحاول القفز من فوق الكنائس المسيحية العربية، باعتبار أنها تابعة لكنائس الغرب، ولمفاهيمه وقيمه وموروثاته.
وكان هذا الاستبعاد يسبب خللاً في الندية الحوارية، ومن ناحية أخرى، فإن إقدام المحاور المسلم إلى الحوار، كان في جله يميل إلى السياسة اليومية، واسترجاع ذاكرة الحروب والصراعات في التاريخ، وفي مراحل تأخره، تركز الحوار على الدفاع عن النفس، وعدم احترام حقوق الإنسان والمرأة، وظاهرة الخوف من الإسلام.
إن العيش المشترك للمسلمين مع الآخر المغاير، سواء في الوطن العربي، أو مع الآخر المغاير في مجتمعات غير مسلمة، ليس مجرد ضرورة حياتية، بل هو أيضاً ممارسة إيمانية، فيها اكتشاف للذات، وفهم موضوعي للآخر، وإدراك واعٍ للقواسم والتحديات المشتركة، ومن ثم الاحترام المتبادل والعيش الواحد المشترك.
إن الاحترام المتبادل، نتيجة ضرورية من نتائج الاعتراف بالاختلاف، فلكل أهل دين ومعتقد، خصوصياتهم الدينية والثقافية، والأصل أن يكون تصرف أهل الأديان جميعاً، مراعياً هذه الخصوصيات، حريصاً على حفظ حرمة أصحابها. كافلاً لهم حقهم في العبادة والتعبير المشروع عنها.
ولا شك أن معيار النزاهة الفكرية، هو في مقدمة المعايير التي تؤسس لصدقية الحوار، فضلاً عن أن الحوار يستدعي اطّلاعاً جيداً على تراث الآخر، من مصادره وتعريفاته لذاته.
نحتاج إلى تأسيس «مؤسسات ومنابر حوارية مشتركة» نشطة وفاعلة، ومبادرات حوارية للشباب، تتيح للمشاركين التعرف إلى الآخر، بعيداً عن الشكوك والهواجس المتبادلة، والتزام مبدأ الإنصاف، وإتاحة الفرصة لمراجعة الصور النمطية المشوهة عن الآخر، ولبناء الثقة وإقامة علاقات صداقة ومودة، والبناء على مبادئ وثيقة الأخوّة الإنسانية.
إن الحوار النافع والمستدام، هو حوار «الحياة»، لا حوار «اللاهوت»، ولا حوار «الدعوة أو التبشير»

yousefalhassan1@gmail.com