أحلام الآباء والأبناء بحثاً عن إصلاح الإصلاح

16-02-2019
د. نسيم الخوري

أمس، قال رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري في دبي: «سأجعل من لبنان دبي ثانية». قالها بصدقية عارمة وببراءة ممزوجة بطيبة، ساهياً عن العيون والآذان التي تسمعه وتتفرّج عليه. مهلاً. كان يقولها صادقاً نظيفاً فوق غيمة من أحلام يمتهنها أساتذة الجامعات العريقة، لا أساتذة الجامعة اللبنانية الذين تلعثموا بعد قراءة البيان الوزاري أكاديمياً، إلى حدود خوفهم من أن تطحنهم حيتان الاستشفاء. كان أبوه رفيق الحريري برقياً في قناعاته؛ إذ مهر الموافقة على صندوق تعاضد «الأكاديميا» بمعاملةٍ فوق ركبته.
ليت الحلم يتحقق!
يا لسعد لبنان واللبنانيين. دبي حلم واسع. أتناوله بحبرٍ نظيف على لسان رئيس حكومة لبنان، ابن رفيق الحريري، رئيس حكومة لبنان الذي لم تتمكّن الدنيا من طمسه من ذاكرة اللبنانيين ومحبّتهم وحبرهم ودموعهم. لك الحق أن تحلم ومعك نحلم، ونطالب ونعد بظرافة وجمال قطف القمر دبي أو استنساخه في سمائنا.
من ينكر أن دبي ليست سوى حلم ملازم لساكنيها؛ إذ يباشرون صباحاتهم بفنجان قهوة وفكرة جديدة، وعمل جيّد. كان الرئيس رفيق الحريري يحلم بدبي وبالعالم في لبنان، لكنهم دبّوه في وطنٍ من شوك، بعدما زرعوا سريره عرشاً وعراً واغتالوه.
أمس، قالها أيضاً أبوك. كنت جاره فور مباشرته الحكم من قريطم. حيّروه وجنّنوه. كنت مديراً لكلية الإعلام في الجامعة اللبنانية وعلاقتي به تعود إلى باريس/مجلة المستقبل. لن أكتب قطعاً ما أعرف. ليس أسخف من تدوين ما تعرفه تحت خانة كان. لا قيمة للكتابة إن كانت للشكوى والفضائح.
كان يعشق الأفكار الجديدة، ويحلّ أعسر القضايا قبل أن يستيقظ لبنان. شكوت يوماً أمامه من أن شراء قلم رصاص أو أوقية بن، يجعلك تنتظر 13 توقيعاً في دورة إدارية لبنانية مسكونة بالأفاعي الطائفية والفساد. لن أردد ما قاله بالحرف. قال شاكياً ممن حوله: كيف تجمع العصي في الدواليب لملاحقة ملف أو فكرة أو حلم. لهذا لم تخرج يده من جيبه. أخجل من سرد غبار ما سمعت. طلب مني مرة أن أكتب شكواي. كتبتها له، ونشرها صحفي مرموق مقالاً له في جريدة «النهار».
كانت إمارة دبي مثالاً لدى الرئيس رفيق الحريري لا بترول فيها. حاول أن يؤسس القرية الإعلامية في لبنان، شاركت بها وأدرجتها في أطروحتي عن لبنان دولة الإعلام Média State ولا بترول فيه أيضاً. استيقظت المافيات لأن المستحيلات في إدارة الحكم اللبناني مشلولة بمناهج تركيا العثمانية وقوانينها الصدئة، بما يعطّل المؤسسات والإدارات، ويشيع «ثقافة» الفساد ويُغذّيها في الشكل والمضمون.
لو كنت مكانك لتمنّيت لبنان مثل دبي. كل لبنانية أو لبناني مقيم أو زائر، وكل إنسان يتمنّى في خلده أن يقطف دبي كما التفاحة أو يرسمها، وينسخ صورها ليأخذها معه في جيبه ويُطبّقها في لبنان.
من يعشق كتب سير العظماء الذين دمغوا التاريخ بحضورهم إيجاباً وسلباً، يخرج بعبرة بسيطة ليست مستحيلة، وهي أن إعمار الدول والمدن والفضاءات تولّد أحلاماً وقصائد دفعت البابليين في مساراتهم الحضارية إلى رفع سلّم حجري «عربشوا عليه» نحو السماء، لكنهم سقطوا حيث تبلبلت الألسن.
ليس لأن لدبي صفات الأقمار وتنسيك قساوة المناخ فيها، ولا تُطرح عليك معضلة الحروف الشمسية والقمرية في اللغة العربية؛ بل لأن الفتاة اللبنانية «تريسي صوان» اختصرت دبي يوماً بجملة واحدة معبّرة بالإنجليزية: (I found my paradise )؛ أي لقد وجدت جنتي.
جملة تختصر الأحلام وأكرّرها في نصوصي ولو تشققت ألسن المنتقدين سراً لحبري، مع أنني زرت دبي مرة واحدة، ولي فيها صديق عرفته وخسرناه هو الدكتور عبدالله عمران تريم، مؤسس صحيفة «الخليج» الذي استضاف حبري فيها رحمه الله.
أقيس بوجدانية تلك المسافة الباقية بين ما كان عليه وما أصبح فيه لبنان. بين أحلام الآباء والأبناء، وماضي اللبنانيين وحاضرهم ومستقبلهم، ودورانهم في أماكنهم بانتظار حكام وحكومات تتشابه ولا تتمايز.
لم ولن تتوقف مجموعة البيانات الوزارية اللبنانية التي كان يجمعها جاري الدبلوماسي السفير جان ملحة في كتاب بعنوان: «حكومات لبنان».
تستنسخ لجنة وزارية صوغ البيان بالعودة إلى البيانات السابقة، ثم تنشرها في الصحف وتذهب بها الحكومة إلى البرلمان لمناقشتها، حيث شاشات التلفزة مفتوحة على الاستعراضية الخطابية والوعود الإصلاحية، والوعود البرّاقة والغمزات واللمسات وتعليقات النباهة الطريفة المقطوفة، من «بر».
لم يحصل أن حكومة لم تنل ثقة البرلمان في لبنان.
ما الذي توقف؟ توقف قلب السفير. وتوقف الإصلاح الذي صار بحاجة إلى إصلاح. وطالبت بعدم توقف طبع كتاب السفير لنضعه بين أيدي طالب وثيقة غنية لأطروحة دكتوراه، في تاريخ الأحلام والكلام والأحكام.