غضب إيجابي

18-01-2019

في العام 1968م وفي مستشفى جامعة بيتسبرغ بولاية ماساتشوستس الأميركية تُوفي طفلٌ بسبب عيبٍ في جهاز قناع التنفس الصناعي، غضب طبيب التخدير "جويل نوبل"، كونه قد نبه مراراً زملاءه بوجود هذا العيب الخطير، لكن أحداً لم يعره الاهتمام.

تأثر "نوبل" بشده، لكنه أدرك أن هذا "الغضب مصدرٌ كبير للطاقة" كما كتب في مذكراته، ثم قرر أنه بحاجة أن يفعل شيئاً لحماية المرضى من هذه العيوب والأخطاء. وفاة الطفل ذي الأربع سنوات بين ذراعيه كانت السبب نحو أن يقوم "نوبل" باختبار العديد من الأجهزة والمنتجات الطبية المتوفرة في الأسواق، وجد العديد منها غير فعال وقد يكون خطيراً على المرضى، حاول نشر نتائجه لكنه لم يستطع، بعد فترة تشجّع وأنشأ معهد أبحاث الرعاية الطارئة، بهدف أن يجعل عمله مؤسسياً ومستمراً لمراجعة وتقييم الأجهزة والمنتجات الطبية بشكل علمي ومبني على البراهين.

لم يكتف بذلك، بل عمل على تطوير "عربة الطوارئ" التي تستخدم لإنعاش المرضى، وصمم نموذجاً متطوراً يحتوي على أجهزة إنعاش القلب والرئتين وغيرها من اللوازم الطبية، تُمكن عدداً أقل من أعضاء الفريق الطبي من إجراء إنعاش سريع ينقذ الأرواح.

وخلال أربعين عاماً توسع المعهد - اشتهر لاحقاً بمعهد إكري - داخل الولايات المتحدة الأميركية وخارجها، ليناهز عدد علمائه الحاملين لدرجة الدكتوراه 300 باحث، من أطباء ومهندسي أجهزة طبية، وصيادلة، ممرضين، قانونيين، وغيرهم من طيف التخصصات الصحية، وليؤسس مكتبة أضحت تعد أهم أرشيف لتقنيات الرعاية الصحية، ناهيك عن اعتماده أكثر سياسات إفصاح الباحثين تشدداً والتأكد من عدم وجود تقاطع مصالح مع المنتجات التي يقومون بتقييمها، ما مكّن باحثي المعهد من القيام بأبحاث أكثر دقة وموثوقية، وتجاوزت أبحاثهم وتقاريرهم الأجهزة الطبية، لتشمل الأدوية كذلك.

اليوم يخدم هذا المعهد غير الربحي أكثر من خمسة آلاف مؤسسة رعاية طبية حول العالم، يشاركه خبرات ونتائج علمائه وباحثيه حول سلامة استخدام المرضى لهذه الأجهزة والأدوية ومدى فاعلية الإنفاق عليها، ناهيك عن تحليل مخاطر ومنافع هذه الأجهزة والأدوية.

قبل أربع سنوات توفي الدكتور "جويل نوبل"، لكن أثر غضبه الإيجابي من وفاة ذلك الطفل قبل أكثر من خمسين عاماً سوف يبقى أبد الدهر، فقد قاده نحو تأسيس أحد أهم المعاهد البحثية المعتبرة وذات الرأي العلمي المحايد، في مجال تقييم سلامة وأمان مستخدمي الأجهزة والمنتجات الطبية والأدوية، ما ساهم في رفع مستوى جودة الحياة للكثيرين، ووفّر الكثير من الأموال والجهود، والأهم حفظ الغالي من الأرواح.