الرجل المختفي

18-01-2019

«الرواية عمل متخيل، فهي عيش لحيوات أخرى، لبيئات وشخصيات وعوالم خيالية، هي نمنمة كلمات وصقل جمل وضبط إيقاع وتنفس وموسيقى».

( غ/م)

***

شدت الرواية انتباه المتلقين منذ بدايتها وكانت ولما تزل تحتل العتبة الأولى لهواة القراءة والشغوفين بالسرد القصصي، فتراكم الشد الذي استولى على أكبر عدد من القارئين حيث تصل نسبة قراء الرواية إلى أعلى قدر بالنسبة للكتابات الإبداعية الأخرى سوى الشعر الذي ينافس في الميدان ويتفوق في فترات زمنية كما الرواية تتفوق في فترات في مجال التلقي، ففي الراهن يشار ويشاع أن الرواية التي توجَّه الكثيرون لكتابتها هي المتخطية في وقتنا، بالرغم أن الشعر في مسيرته بأشكاله التقليدية، والتفعيلة «وقصيدة النثر» ينشر جناحيه محلقاً سواء تأليفاً أو ترجمة على المستوى العالمي.

ولكيلا يمضي بنا هاجس التوازي بين نوعين من الإبداع الإنساني الذي يحتاج إلى دراسات رصدية متعمقة أمينة ولكي أكون مع الإبداع عامة بكل أنواعه المثرية، أتوجه في هذه المساحة إلى ملامسة جوانب من رواية «اللحظة الراهنة» للكاتب المتجدد اللافت في تناوله الموضوعات الآنية والمستقبلية، الفرنسي «غيوم ميسو» الذي ترجمت رواياته إلى أكثر لغات العالم، وكان نصيب العربية منها الذي قرأتها فحصلت على متعة وفائدة هي الروايات «وبعد - فتاة من ورق - لأنني أحبك - انقذني - نداء الملاك - غداً - سنترال بارك» وفي المتعة تكون الموضوعات ذات علاقة بمعاناة الإنسان المعاصر أفراحه وأحزانه وتطلعاته، فتكون معها في واقع معاش قريب منك وسهل ولكن لم تكن تعطيه الأهمية التي يكتشفها لك الكاتب عندما يسرد متحدثاً عن شخصياته التي يخيل لك أنك منهم فتجد ما يتفاعل في ذاتك مبسوطاً أمامك ومعروضاً على شاشة ثلاثية الأبعاد.

في رواية «اللحظة الراهنة «يحلق بك علواً ويتوغل بمشاعرك عمقاً مع شخصية تجري وراءها تحدوك رغبة شديدة مكثفة الفضول وتتنقل معها من فصل إلى آخر لاهثاً لمعرفة «الرجل المختفي» هذا المتزوج وأب لولد وبنت، الزوجة تقوم بالواجبات المترتبة عليها تجاه المنزل ورعاية الأبناء، ولا تقصّر في إعطاء الزوج حقه فترة وجوده لأربع وعشرين ساعة التي تحدث في العام، ثم فجأة يختفي لا أحد يراه، ويكون اليأس من ظهوره، ولكن تكرار هذا لأكثر من مرة وما يبعثه من تخيل وتساؤلات يعطيان الرواية طابعاً ميتافيزيقاً، وهو بتحوله المفاجئ إلى واقع تتوزع وتتشتت الأذهان بين كينونتين متضادتين، وفي صراع الأفكار الباحثة عن مخرج يوصِّل إلى نتيجة، يظهر المختفي الذي كانت مدة اختفائه يقضيها في مكتبته المنزوية في أحد أركان المنزل منهمكاً يكتب فصول هذه الرواية التي تحكي حيوات مختلفة منها ذاتية خالصة تخصه وأسرته، وعامة عن الحياة والناس، ولم ترد زوجته أن تقطع عليه خط السير، وكانت المساعد والمساند وهي لم تدرك ذلك.

آرثر كاستلو هو الشخصية الكاتبة من خلال المجسم الكتابي الذي نحته غيوم ميسو في هذه القصة اللاهثة التي لا يسعكم تخيل نهايتها كقول إيفاروك: من إحساسها أن هناك شيئاً يحدث ما هو وكيف ولماذا، فتكون الرواية هي التي تجيب «فالجزء الخرافي في القصة - كما تقول شخصية الرواية الرئيس - يخبئ جزءاً من الواقع، وأي رواية هي دوماً شبه سيرة ذاتية مادام المؤلف يروي قصته من موشور عواطفه وإحساسه.. حتى أبني شخصية من شخصيات الرواية أتماهى معها.. أتبدد في كل شخصية من شخصياتي».