يا والد

17-01-2019

تشعر أنك قد دخلت في دائرة كبار السن، عندما تسمع نداء: يا والد، أو يا عم، أو يا خال! النداء من الخارج هو الذي يجعلك تدرك أن مرحلة جديدة من تداعيات العمر قد دخلت أو هي في طريقها إليك. تحزن أو تقول باستهانة: "كل وقت ما يستحي من وقته!" وإذا كنت مستهتراً فإنك سوف تطرح السؤال الاستنكاري: هل هناك أحد خرج من الدنيا، وأخذ معه شيئاً؟ لكنك حالما تخلو إلى نفسك، سوف تقف أمام المرآة، التي لا تكذب ولا تتجمل من أجل أحد. سوف تقف أمامها، ليس كما تقف في كل مرة. هذه المرة ستكون من أجل تفقد سائر الملامح. الذقن، الرقبة، الشعر، تهدل الأجفان والجبهة، تتفقد تعرجات الوجه كافة، وتسترجع على مهل نداء: يا والد! الذي لاحقك به البائع، ليسلمك غرضاً نسيته عنده، أو من يتنازل لك عن دوره في الطابور!

بعض الناس لديهم الروح العملية حاضرة، يراقبون زحف السنين مبكراً، لا شيء للصدفة، يأخذون أنفسهم بالشدة مع الظواهر كافة. هناك من يقضي مع كل صباح دقائق طويلة أمام المرآة، ولا يتركها إلا بعد اجتثاث ما استجد من الشيب، وهو متابع دؤوب لعيادات الأسنان والمفاصل والسكر والضغط، لن يسمح لآفة من هذه الآفات بالتسلل إلى بدنه. وعنده استعداد تام للتخلي عن أي شيء من الممكن أن يعجل بزحف الشيخوخة، مهما كان ضعيفاً أمام هذه الأشياء.. لا استسلام!

مقابل هؤلاء الذين لا يعترفون بتقدمهم في السن، هناك أناس عمليون، عندهم اعتقاد راسخ أن لكل مرحلة من العمر حلاوتها، هؤلاء يقبلون، حالما يخرجون إلى سن التقاعد، إلى ممارسة عديد من الأشياء التي يحبونها، دون انتظار أي مردود مادي منها. عجوز بريطاني يخرج من منزله، لتنظيم دخول الأطفال وخروجهم من المدرسة المجاورة، وعجوز آخر حجز له مكاناً في نادٍ. دوام كامل للنادي يشارك خلاله في الأنشطة كافة. آخر يفرغ نفسه ساعات محددة، لإطعام القطط أو الكلاب الضالة. أما أفراد البرجوازية الصغيرة، فإنهم يتفرغون للرحلات، وصيد الأسماك والرياضة، وبعض هؤلاء يرحلون إلى دول، يرون أنها بحاجة إلى خدماتهم، الطبية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية، حيث يجندون أنفسهم لتقديم خدماتهم مجاناً. وهناك من يرحلون إلى أدغال آسيا وإفريقيا للعيش مع الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، وكأنهم أهلهم أو أسرتهم البديلة!

وهناك شريحة كبيرة من كبار السن، لا يحبون أن يكونوا عبئاً على أولادهم أو بناتهم، هؤلاء يملكون الشجاعة الكافية، لتصفية أمورهم، والانخراط في بيئة تتناسب وسنهم، وأبرزها دور المسنين، وبعضها الآن مثل الفنادق، تقدم الخدمة الشاملة، العلاج والترفيه والنوم والرفقة. هذا يحدث في البيئات العملية، أما في غيرها فإن ثقافة العيب فاشية، وبسببها قد يلجأ ابن عاصٍ، أو ابنة عاصية إلى وضع كبيرهما أمام دار مسنين أو مستشفى أو سوق عام، دون أن يكون معه ما يدل على هويته أو هوية من تخلوا عنه!