البيئة الأميركية واختلال فهم معنى التعددية

17-01-2019

وضعنا كعرب في المجتمع الأميركي يقع تحت تأثير الثقافة النواة، أي قيم الثقافة الغالبة، ولكن هذه الثقافة الغالبة لا تمنحه سمة القبول التام.. وذلك لصعوبة عملية التمثل؛ لأن الإنسان العربي غير قادر على الانفصام عن ماضيه الثقافي، وفي الوقت نفسه لا يستطيع الاندماج في الثقافة الأميركية..

قبل سنوات، أي في العام 1986، كانت نيويورك وأميركا كلها تحتفل بمرور مئة عام على وقوف سيدة الحرية على بوابة مرفأ نيويورك رافعة شعلتها مستقبلة المهاجرين الوافدين إلى العالم الجديد.

اللوحة عند قدمي التمثال تقول: "ابعثوا إليّ بمتعبيكم ومشرديكم وجموعكم المتجمهرة المتطلعة إلى فجر الحرية".

لا أظن أن واحدًا من الأفارقة الذين انتزعوا من جذورهم وجيء بهم عبر الأطلنطي أو أهل الجزر أو اللاتينيين أو الشرقيين أو العرب يصدق ولو للحظة واحدة تلك الكلمات المحفورة عند قدمي التمثال تلك الحقيقة يجدر بنا مناقشتها فهي ظاهريًا فرصة لحياة جديدة في كنف الحرية ولكن وراء هذه الظاهرية متغيرات محجوبة عن النظرة العجلى.

يقول د. تشارلز هيرشمان أستاذ الدراسات النفسية بجامعة واشنطون: إن المجتمع الأميركي في أصوله الأولى لم يكن مجتمعًا متسامحًا على الإطلاق، وإن تلك المجموعات التي هاجرت من أوروبا إلى الأرض الجديدة ومعظمهم من البروتستانت بحثًا عن حرية الاختيار في العالم الجديد لم تكن مجموعات متسامحة مع السكان الأصليين والمهاجرين الأوائل من يهود وكاثوليك وآسيويين وشرقيين وأفارقة بل تعرض أكثرهم للتسخير الاقتصادي المتذرع بفكر الاستعلاء العرقي.

وإذا ما وقفنا على البيئة الثقافية الأميركية في تلك الحقبة التاريخية ففيها ثقافة سائدة ومحورية تتشكل من البروتستانت وفيها ثقافات جانبية أخرى.

ولذلك فلن يستطيع شخص قادم إلى المجتمع الأميركي أن ينجح في محاولته التمثلية لو أنه قرر مثلًا أن يتبنى خصائص الثقافة الأميركية الإفريقية أو خصائص المجموعات الأميركية الآسيوية أو المكسيكية مثلًا؛ لأن هذه المجموعات نفسها تنظر أمامها إلى طريق طويل من جهود التمثل لو أنها اختارت هذا الطريق حتى تستطيع أن تحصل على القبول النهائي من المجتمع الأميركي السائد في ذلك الوقت.

وإذا ما طرحنا السؤال حول مشكلات التمثل والهامشية مطبقًا على وضعنا كعرب في المجتمع الأميركي فإن الإنسان العربي يقع تحت تأثير الثقافة النواة، أي قيم الثقافة الغالبة، ولكن هذه الثقافة الغالبة لا تمنحه سمة القبول التام.. وذلك لصعوبة عملية التمثل بسبب أن الإنسان العربي غير قادر على الانفصام عن ماضيه الثقافي وفي الوقت نفسه لا يستطيع الاندماج في الثقافة الأميركية، والأفراد الذين عادة يستطيعون أن يمضوا إلى نهاية الشوط في التمثل والاندماج قليلون وليس ذلك وقفًا على العرب وحدهم بل يشمل الأفارقة واليهود والمكسيكيين وأهل الجزر والآسيويين والشرقيين.

وإن كانت الجالية اليهودية انتزعت حقوقها انتزاعًا بسبب نمو النفوذ اليهودي في أميركا والقبول المتزايد الذي حصل عليه اليهود قد قلل أكثر من درجة الهامشية.

وكذلك الأفارقة بعد الإعلان الحقيقي لحركة الحقوق المدنية في أميركا والتي كانت المحرك الحقيقي لحركة الحقوق المدنية في الخمسينات فكفاح الأقليات الطويل نجح في الحصول على مزيد من الحقوق والحريات داخل المجتمع الأميركي، وساعد على مرور المجتمع الأميركي بعدد من التحولات الثقافية والاجتماعية والسياسية الكبرى مثل حرب فيتنام وثورة الأفارقة الأميركيين لنيل حقوقهم المدنية والثورة الثقافية وأفكار اليسار في أوساط الشباب الأميركي، وهي أفكار دفعت المجتمع الأميركي نحو مزيد من النقد الذاتي.

كما دفعت هذه التغيرات أميركا نحو مزيد من التعددية حيث ارتبطت هذه التعددية بفتح باب الهجرة أمام المهاجرين للولايات المتحدة.

ففي تسعينات القرن الماضي دخل أميركا تسعة ملايين مهاجر، فالعقود الماضية شهدت واحدة من أكبر موجات الهجرة لأميركا، والواضح أن هذه الموجة الحديثة تمتعت بقدر أكبر من الحقوق والحريات مقارنة بالموجات السابقة بفعل عدة عوامل أساسية على رأسها التعددية الثقافية التي سادت منذ الستينات والتي شجعت المهاجرين الجدد على الاحتفاظ بهوياتهم الثقافية والإثنية ورفض الذوبان في المجتمع الأميركي وسعيهم المستمر للحصول على مزيد من الحريات والحقوق عن طريق المنظمات والهيئات الحقوقية وبناء التحالفات مع السياسيين والأقليات الأخرى.

إلا أن ظهور اليمين الأميركي خلال العقدين الأخيرين والذي رأى في التعددية السياسية خطرًا على المجتمع وقد عبر صموئيل هنتينجتون في كتابه الجديد (من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأميركية) عن وقوفه ضد فكرة أن أميركا بلد المهاجرين ومتنوعي الأعراق والإثنيات والثقافات، ويرى أن أميركا الحقيقية تلك التي أعلنت استقلالها في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي والمتمثلة في البريطانيين البروتستانت الذين غادروا أوروبا واستقروا في العالم الجديد، وينظر هنتينجتون للمهاجرين الجدد ودعاوى اليسار الأميركي للتعددية على أنهما تهديد للهوية الأميركية..

وهذه هي الكروت الرابحة بالنسبة لقوى اليمين في أميركا حيث تلتف حول هذه الشعارات النواة من الطبقة الوسطى.

ولذلك فما تمثال الحرية على حد قول جيمس بولدوين إلا نكتة مريرة.