سورية.. والحسابات الخطأ

17-01-2019

مرت الأزمة السورية بأطوار عدة منذ اندلاعها في 2011، تبدلت فيها خرائط وموازين قوى، وانقلبت فيها أدوار اللاعبين غير مرة، لكن الصورة لم تكن أبداً بهذه السوريالية التي وصلت إليها الأزمة في يومنا الحاضر، إذ يلف الغموض مواقف جميع الأطراف الفاعلة، ويسود ارتباك هائل حسابات الدول المؤثرة على الأرض، ولعل أبرز تجسيد لهذا الارتباك، الموقف الأميركي المتذبذب حول الانسحاب العسكري من سورية، إذ بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب عزم بلاده الخروج مما وصفه بأرض «الرمل والموت»، توالت إشارات متناقضة من مسؤولين أميركيين ثم من ترمب نفسه حول طبيعة والمدى الزمني لهذا الانسحاب، ما يؤشر إلى مراجعة الإدارة الأميركية لقرار الانسحاب الذي لم تتأخر مفاعيله على الأرض عبر انتعاش تنظيم داعش، وحالة الارتباك الكردي التي دفعتهم للتقارب مع نظام بشار الأسد، فضلاً عن الإشارة الخضراء التي قرأتها طهران في القرار بتعزيز وجودها ووجود ميليشياتها الطائفية.

آخر تجليات هذا الارتباك الاستراتيجي الاشتباك الدبلوماسي الدائر حالياً بين واشنطن وأنقرة، حيث نقل ترمب اللغة الدارجة بين البلدين إلى مستوى جديد بتهديده تدمير الاقتصاد التركي حال مهاجمة تركيا لقوات سورية الديموقراطية، قبل أن يعود لاحقاً في اتصال هاتفي مع الرئيس التركي لتهدئة النبرة والحديث عن إنشاء منطقة عازلة شمال سورية تلبي هواجس أنقرة.

تعقيدات الوضع السوري لا تسمح بأي قراءة خاطئة، وهاهو هجوم منبج الذي أسفر عن مصرع أربعة جنود أميركيين يثبت تعذر الانسحاب الأميركي، فسورية باتت كرة صوف إقليمية تختلط فيها حسابات الدول العظمى والإقليمية، مع النزعات الانفصالية، ومشروعات الإرهاب العابر للحدود، وأي خطوة في الطريق الخطأ ستسهم في تأجيج الحريق السوري، ومن نافلة القول إن هذا الحريق سيمس الجميع، بل إنه مسّهم فعلاً جراء تداعياته الإنسانية والسياسية التي لم تتجنبها حتى الدول الإسكندنافية، وفي ظل هذه الحقائق يبدو من المجازفة القفز إلى استنتاجات لمستقبل الأزمة السورية عبر الحديث عما يسمى تأهيل النظام السوري القائم، وفضلاً عما في هذا الاستنتاج من إغفال لحسابات السياسة والمصالح، فإنه ينطوي على خطل أخلاقي يتغاضى عن الإرث الدامي لهذا النظام، ومسلسل الفظائع التي أوغل في ارتكابها هو وداعموه على مدى ثماني سنوات، لذا يبدو حرياً بالمجتمع الدولي في ظل هذه الاشتباكات والتداخلات التي طغت على المشهد أن يتذكر جوهر القضية السورية، إذ كانت في البدء ثورة شعبية سلمية ضد نظام جائر قبل أن يحرفها السلوك الوحشي للنظام والتدخلات الخارجية إلى مواجهة مسلحة مفتوحة، لذا سيكون أي حل يبقي هذا النظام بأي صورة كانت ليس سوى إهدار لدماء ومأساة ملايين السوريين، أياً كانت العناوين التي سيسوق تحتها هذا الحل.