جدلية البناء والهدم

18-01-2019

ابن الديرة*

البناء صعب والهدم سهل. هذا مفتتح مناسب لحديث اليوم، وهو ما يتردد يومياً على ألسنة الناس، وكأنه سليل التجربة ونتاج الحس الشعبي. فعلاً لا مقارنة بين أدوات البناء ومعاول الهدم، وينصرف المعنى إلى مجازه ليعبر أعمق وأوسع منه في الحقيقة. على المستوى الحقيقي يكلف المبنى من الإعداد والتخطيط والإنجاز الكثير، ومن الوقت بطبيعة الحال، فيما تأتي «ماكينة» الهدم لتقول أنا هنا ومستعدة لشطب المبنى من على سطح البسيطة في وقت غير متخيل، في يوم أو بعض يوم.

ومن حقيقة المعنى إلى مجازه، فربما تعب الإنسان على تكوين سمعة طيبة سنوات وعقوداً، وفجأة، بتصرف غير سوي، يهدم ما بنى في لحظات. هذا ينطبق على المؤسسات، وأبعد من ذلك، على المجتمعات، ويتحقق ذلك، أوضح وأسرع، في هذا الزمن الأخير، الزمن المجنون لجهة التطور المذهل في التواصل والتقنية. ما يبنى في البيت والمدرسة قد يهدم في الشارع والمقهى والسوق، وما بنيه أصدقاء المحبة والوفاء قد يهدمه أصدقاء الخيانة والسوء في زمن قياسي، فليس إلا محاولة التشويه والإيذاء بكل الوسائل.

وقد تراكم وزارة كبرى أو دائرة معتبرة خبرات مهمة في التعامل مع الجمهور، فيشذ عن القاعدة موظف واحد مغمور، فتكون النتيجة الوخيمة على الوزارة وتاريخها وسمعتها، وهل معظم النار إلا من مستصغر الشرر؟

القصد بين هذا وذاك ليس وصف واقع معيش أو محتمل، وإنما العمل أولاً على عدم تحققه، وتطويقه والحد من آثاره لو وجد. القصد عدم استمراره، والقصد العمل الإيجابي نحو تغيير كل ما يسهم في تشويه المشهد العام، أو الإضرار به بأي صورة من الصور.

لا يوجد مجتمع في الدنيا خال في المطلق من ظاهرة الهدم المتعمد أو العشوائي في مقابل البناء المدروس والمخطط له جيداً، وفي المعنيين الحقيقي والمجازي علينا الانتباه والرقابة والحماية وخلق الوعي الجديد في أوساط المجتمع باستمرار، فمهما كانت الظاهرة محدودة أو ضئيلة في الإمارات فعلينا مواجهتها، والاستعداد بحلول مبتكرة دائماً.

فمن يراقب ويرصد وينصح ويكافئ ويعاقب؟ وسائل البناء مرئية وتمارس عملها في شمس النهار، فيما معاول الهدم مخفية على الأرجح، وإن لم يكن، فوضع طاقية الإخفاء على رأسها، لكن المريب يكاد يقول خذوني حتى لو كانت هوايته الثانية ارتداء جلد الحرباء. إنها جدلية البناء والهدم عبر الأماكن والأزمنة والعصور، منذ عمالقة حوار الفكر والفلسفة إلى من يقفون على ضفاف المعنى وفي أيديهم نيات وأسلحة الهدم.

لا فرق هنا في التأثير، إيجابياً أو سلبياً، بين مسؤولين كبار أو موظفين كبار، وقد يسيء موظف صغير إلى مؤسسته بل إلى مجتمعه ووطنه بسلوك صغير أهوج، فالله الله بأهلهم ووطنكم يا بعض موظفي المطارات وبعض موظفي «الكاونترات» والخطوط الأمامية في الوزارات والدوائر، حيث لا بد من العمل الجميل المتقن، والاقتداء، ما أمكن، ويا لها من مقارنة ظالمة كثيراً، مع من يرفع راية التضحية في الصفوف الأمامية والجبهات المتقدمة وهو يدافع عن وطنه وأمته والمقدسات.

نعم الإنسان نفسه يمكن أن يكون فأس بناء أو معول هدم، فماذا تختار؟

ebnaldeera@gmail.com