جميلة هي الحدائق

17-01-2019

د. حسن مدن

كتب محمود درويش قصيدته الشهيرة «الجدارية» بعد تجربته مع ما يشبه الموت، حين دخل ولو لبعض الوقت في موت سريري. ظنّ الشاعر أن هذه ستكون قصيدته الأخيرة، وأنه لن يتمكن من الكتابة بعدها. وفيها حقق ما كان يرغب في تحقيقه منذ تجاربه الشعرية الأولى وهو لما يزل شاباً: محاكاة المعلقات الشعرية في العصر الجاهلي، حيث حاول أن يفعل ذلك في بداياته، ولكن تلك كانت مجرد بدايات شاب يريد أن يكون شاعراً.

ومن هنا اختار لهذه القصيدة مسمى الجدارية، أي ما يعلق على الجدار، على نحو ما كان الشعراء الكبار في «الجاهلية» يفعلون، وأراد درويش أن تكون جداريته بمثابة «شهادته» الشعرية أو «أثره» الشعري الذي يُخلد من بعده.

لكن لحسن حظنا جميعاً، ولحسن حظ الشعر العربي أن «الجدارية»، على أهميتها ومكانتها المميزة في مجمل تجربة محمود درويش لم تكن قصيدته الأخيرة، ذلك فإنه كتب بعدها شعراً مهماً، صدر في المجموعات الشعرية التالية ل «الجدارية».

بعد «الجدارية» سأله أحد من حاوروه، وهو سامر أبو هواش، في حوار نُشر يومها في مجلة «نزوى» العمانية، عما إذا كان يتجه بعدها إلى جدارية أخرى، فأجاب بالنفي. قال إنه يتجه إلى شيء أبسط معتبراً أن هذا أفضل له لأنه ليس متسلق جبال، وبالتالي فإنه ليس مطالباً بكسر أرقام قياسية جديدة، ببلوغ قمم لم يبلغها من قبل، وبتعبير محمود: «يستطيع المرء أن يتسلق جبلاً عالياً ثم يذهب في نزهة إلى أحد الحقول أو الحدائق. جميلة الحدائق».

في الحوار نفسه سأل المحاور الشاعر عما إذا كان بوسعه تحديد محطات تطوره الشعري، فأجاب بما يمكن أن نوجزه هنا في التالي: ديوان «العصافير تموت في الجليل» كان قطيعة مع ما سبقه من دواوين، المحطة الثانية كانت مع ديوان «انتحار العاشق» الذي عكس تجربة الشاعر في بيروت، لكنها تجربة أجهضت بسبب الحرب والأجواء النفسية الضاغطة. بعد حين أتت مرحلة الاشتغال على التاريخ ممثلة في ديواني «أرى ما أريد»، «أحد عشر كوكباً»، ثم جاءت تجربة السيرة الذاتية في دواوين «سرير الغريبة»، «لماذا تركت الحصان وحيداً» و«الجدارية» نفسها.

الحق أن الشاعر أشار أيضاً إلى محطة فاصلة بين تجربتي بيروت والاشتغال على التاريخ عبّر عنها ديوانه «ورد أقل»، ربما ليعزز لدينا القناعة بأن الحدائق جميلة، وأن لكل حديقة جمالياتها الخاصة بها، وليس مطلوباً من المبدع أن يكون أسير قيد تسلق الجبال دائماً.

madanbahrain@gmail.com