سنون قادمة وقضايا قائمة

17-01-2019
جميل مطر

أتفق مع السيد شواب رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي ومؤسسه على أننا، أي البشرية، على أبواب عالم جديد، وأظن أنني لن أختلف معه كثيراً حول اختياره عبارة «العولمة 4» عنواناً لهذا العالم الجديد، ولعله ينتظر الآن من ممثلي القوى والمؤسسات الرأسمالية ومفكري النظام الرأسمالي المشاركين في مؤتمر المنتدى للعام الحالي، أن يضعوا خريطة طريق توضّح معالم هذا العالم الجديد، وتحدد الصعوبات التي قد تواجه هذا النظام في السنوات القادمة، وتحذر من تكرار الأخطاء التي تسببت في انكسار «العولمة 3» والسلبيات التي نجمت عن ممارساتها. هذه الأخطاء والسلبيات يتحمّل كثير منها مسؤولية عديد الأزمات والارتباكات التي شهدها العالم في العقدين الأخيرين، والتي، وأقصد الأخطاء والسلبيات والأزمات والارتباكات، يمكن أن تبقى معنا سنوات أخرى قادمة. كثيرة هي، ويزيدها عدداً وأهمية نواحي قصور أخرى لم تكن «العولمة في آخر مرحلة لها» وحدها مسؤولة عنها.
للخريطة، كما ذكرت، تفاصيل غزيرة، عرضتها على زملاء بانحيازات أيديولوجية متباينة، وخرجنا بقائمة ترصد التفاصيل الأهم لخريطة يبدو أنها سوف يكون لها التأثير العميق في مسيرة البشر وحكوماتهم خلال السنوات القادمة.
جاء الرئيس دونالد ترامب على رأس القائمة، رجل خرج مباشرة من رحم العولمة في مرحلتها الثالثة، حسب تسمية شواب لها، استفاد منها مادياً إلى أقصى الحدود. بفضلها أقام إمبراطورية فردية ثم عائلية، جمع ثروات طائلة وعلاقات، وعقد صفقات، مستخدماً فرصاً وفّرتها مرحلة الثورة في الاتصالات وانتقال رؤوس الأموال التي تراكمت لدى المصارف، نتيجة التوسع في سياسات السوق وحرية التجارة. بهذا المعنى كان ترامب نموذجاً للعولمة استفاد منها، هو وأمريكا، ثم انقلبا عليها عندما شعر، وشعرت أمريكا، بأن العولمة خلقت منافسين أقوياء وجيلاً جديداً من عمالقة الاستثمار ودولاً شقت طريقها بسرعة غير متوقعة نحو مواقع القمة. العولمة الآن، وسوف تظل، كلمة مكروهة في قاموس اللغة الفريدة حقاً التي يستخدمها الرئيس الأمريكي. الكره لها صار سمة من أهم سمات الدبلوماسية الأمريكية الراهنة التي سرعان ما ترجمته حرباً كلامية وإجرائية ضد رموز العولمة والمؤسسات المستفيدة منها، مثل منظمة التجارة العالمية، واتفاقات المناطق التجارية الحرة التي عقدها رؤساء أمريكا السابقون أو شجعوا عليها. الرمز الأهم ولعله الأبقى هو الصين، أهم ثمرات العولمة، وهذه شن الرئيس حرباً تجارية ضدها وضد الاتحاد الأوروبي، أحد أهم النماذج، وحقق نجاحاً في الحالتين.
واضح لي على الأقل أن ترامب جاء إلى منصبه، وقد قرر أن يسلك النهج نفسه الذي سار فيه حكام أمريكا في أعقاب أزمة الكساد في الثلاثينات من القرن الماضي. وقتها لجأوا إلى إعلان التوسع في سياسات الحماية الجمركية ووضع الصعوبات أمام القوى المنافسة، واختاروا الانعزال عن مجتمع الدول الديمقراطية والامتناع عن دعم المؤسسات الدولية، وتقليص كل أنشطة وفرص التعاون الدولي.
من سلبيات العولمة في مرحلتها الفائتة، أي رقم 3 حسب الترتيب الذي وضعه شواب لمراحل العولمة، أنها تسببت في توسيع الفجوة بين الغنى والفقر إلى درجة لم يعرف مثيلاً لها الصراع الطبقي في زمن سابق.
هذه الأشكال المتنوعة للتمرد لم تكن التطور الوحيد الذي نتج عن فشل الطبقة السياسية الحاكمة في دول عديدة، تعرّضت من بعيد أو قريب لرياح العولمة. أنتج الفشل أيضاً عزوف قطاعات من الناس عن الديمقراطية فكراً وممارسة، وراحت تحتشد وراء شخص يقودها أو يقود حركة سياسية شغوفة لضم هذه القطاعات إليها.
أخشى أيضاً أن يمتد التخريب الذي تمارسه يد الحكم الشعبوي إلى أجهزة العمل الدبلوماسي في تلك الدول فتفقد جانباً من صدقيتها وسمعتها. سمعت من يحذر من قصور يصيب هذه الدبلوماسيات وغيرها ويلتصق بها في المستقبل. جاء ما سمعته في صلب تعليق من أحد الدبلوماسيين الأجانب على خطاب مايك بومبيو في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. قليلون خرجوا راضين عن خطاب، لا يحمل رسالة ولا يستحق شرف أن يصدر عن أكبر الكبار في الدبلوماسية الأمريكية. خطاب للتوضيح فلم يوضح وللتبرير فلم يبرر، وللإقناع فلم يقنع. أخشى أن يصير خطاب كهذا في السنوات القادمة نموذجاً للاحتذاء عند دبلوماسيات دول تخضع للشعبوية أسلوب حكم، نموذجاً لخطاب لا يقول شيئاً والظرف ظرف أزمة والأعصاب مشدودة في مواقع عديدة بالإقليم. مرة أخرى خلال عامين يخرج الحاضرون من حفل سياسي أمريكي غير مصدّقين.
لا مبالغة في القول إن كلاً من الاتحاد الأوروبي، والمملكة المتحدة، لن يخرج من معركة البريكست بحال أفضل، البريكست انتفاضة ضد العولمة وككثير من الانتفاضات لم تستعد ببديل. الوحدة الأوروبية مهددة، وإذا تهددت هذه الوحدة تهدد سلام العالم، والمملكة المتحدة مهددة أيضاً في وحدتها ورخائها ومصير ديموجرافيتها.
كان يحدونا أمل أن نتخلص كعرب من عدد غير قليل من سلبيات العولمة قبل أن نلتحق أو يلحقونا بعولمة جديدة، لحقت بنا حتى التصقت سلبيات جرّبنا نزعها وأظن أننا لم نفلح، قد نفلح لو جرّبنا مرة أخرى فنتأهل عند ذاك لنختار لأنفسنا دوراً في عولمة شواب الجديدة، العولمة 4.