كوابيس المجال التواصلي الرقمي القادمة

17-01-2019
د. علي محمد فخرو

منذ عام 1960 تنبّأ الأكاديمي المنظّر مارشال مكلوهان، بأن مجيء وازدياد التواصل الإلكتروني سينقل الأنظمة والعلاقات الاجتماعية من حالة الاستقرار والسلام المدني إلى حالة رجوع ما سمّاها العلاقات القبلية. وقد قصد بالعلاقات القبلية التفريخ المتنامي لأشكال لاحصر لها من الولاءات، والاصطفافات الفرعية الملائمة لفكر، وثقافة، وسلوك، وتحيزات، ونفسية الفرد.
وكنتيجة لتلك الولاءات والانحيازات، في السياسة، والعادات، والملبس، والميول الجنسية، والتعصّبات العرقية، والتشنّجات الدينية والمذهبية، والسلوكات العدوانية تجاه الأطفال، أو المرأة، أو الآخرين..إلخ، ستنتج صراعات وتراجعات للانسجام والتناغم الإنساني، ما سيؤدي إلى أزمة خطرة في هويات المجتمعات. وستتراجع الهوية المجتمعية والوطنية الجامعة، وستسود الهويات المفرّقة المجزّئة.
وما أخاف مارشال مكلوهان هو أن بروز تلك العلاقات القبلية، والوصول إلى أزمة الهوية الوطنية سيدمّران الأسس التي قامت عليها الأنظمة الديمقراطية في الغرب، وسيقودان إلى علاقات العنف، واجتثاث الآخر. وهذا سيعني تراجعاً كبيراً في الحياة السياسية، وصعوداً كبيراً للبربرية والتوحّش.
اليوم، بدأت نذر تلك النّبوءة تظهر في الغرب، وبدأ العديد من الباحثين الاجتماعيين، وكتّاب السياسة يتحدثون عن اقتراب مجتمعاتهم من معركة وجودية بين تكنولوجيا التواصل الإلكتروني الاجتماعي، بتنظيماتها وممارساتها الحالية المملوءة بالسلبيات، وبين النظام الديمقراطي برمّته. ويعطون كأمثلة على نذر تلك المعركة الوجودية ظاهرة الصعود المذهل للحركات والأحزاب الشعبوية المعادية للأجانب واللاجئين السياسيين، ولكل أنواع التسامح مع الآخر، وظاهرة الممارسات النرجسية السياسية من قبل بعض القادة السياسيين المنتخبين، من أمثال الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب.
فاذا كان الغرب يواجه إشكالية مع التواصل الرّقمي الذي أطلق عنان العواطف والسلوكات المريضة في الحياة السياسية، فإننا نستطيع أن نتصوّر المخاطر الهائلة التي تنتظرنا، نحن في المجتمعات العربية التي تعاني صراعات تاريخية متخيّلة، وانقسامات مذهبية طائفية، وتركيبات سكانية معقدًّة، وأعداء خارجيين يؤجّجون الانقسامات ليل نهار لتفتيت هذه الأمة، واستعمالات انتهازية داخلية لإدخال مجتمعاتنا في خلافات إيديولوجية وصراعات ولائية ضيّقة لمصلحة هذا الحكم، أو هذه القبيلة، أو ذلك الدين والمذهب، أو ذاك الحزب.
يكفي أن يقوم بضعة أشخاص، أو تقوم جهة استخباراتية في الكيان الصهيوني، أو بعض الدول الطامعة في ثرواتنا بنشر شتم وتجريح للمذهب الشيعي، على سبيل المثال، والإيعاز الوهمي بأن ذلك صادر عن جهة سنيّة ، ثم إتباع ذلك بمناوشات وهمية لشتم وتجريح المذهب السنّي، على سبيل المثال أيضاً، حتى تشتعل نار مدمّرة من الحقد، والكراهية، والإدّعاءات التاريخية العبثية في طول وعرض وسائل التواصل الإلكتروني العربية.
لسنا نضرب مثلاً نظرياً هنا، فهذا يحدث يومياً، ويشاهد، ويقرأ يومياً في التبادلات الطفولية البليدة عبر وسائل التواصل الرّقمي، بأشكاله المختلفة، خصوصاً أن نسبة من يملكون ويستعملون تلك الوسائل من أفراد الشعوب العربية قد وصلت إلى أكثر من أربعين في المئة، كمعدّل وسطي.
وبالطبع، فإن انتشار الأمية والضعف الشديد في أسس ومناهج ووسائل التعليم في مدارسنا وجامعاتنا، والذي ينتج عنه تسطيح في الثقافة، وعجز في القدرة على الشكّ والتمحيص، والتحليل، والرجوع إلى مصادر المعلومات الموثوقة، لا يمكن إلا أن تؤدّي جميعها إلى تسهيل مهمّة أيّ كذاب، أو حاقد على هذه الأمّة.
ولعلّ أكبر انتكاس، بسبب كل ذلك، سيكون لمحاولات انتقال المجتمعات العربية إلى أنظمة ديمقراطية معقولة في المجالات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية. فإذا كان لدى الغرب مخاوف فإن لدينا كوابيس مرعبة.
في الغرب يتحدثون عن وضع ضوابط قانونية وتنظيمية من قبل سلطات الدول، ومن قبل الشركات المالكة لتلك الرسائل التواصلية الرقمية، على شرط ألا يتم ذلك على حساب مبدأ الحرية الفردية المعقولة والحريات المدنية، وبالطبع فلن يكون هناك شطط في الضوابط والتنظيمات، بسبب قوة مؤسسات المجتمع المدني لديهم.
ولكن ماذا عنّا نحن العرب؟ نحن حتماً سنحتاج إلى ضوابط، وإلى تنظيم الموضوع برمته، وهو أمر سيكون مملوءاً بالمخاطر إذا قامت به أنظمة سياسية غير ديمقراطية، وإذا لم يكن هناك تشارك فاعل من مؤسسات المجتمع المدني. ولكن، بالنسبة إلينا، سنحتاج إلى خطوات كثيرة تصحيحية ذاتية في المجال الرّقمي قبل أن ننتقل إلى مرحلة الضوابط والتنظيمات القانونية.
هذا ما سنحاول أن ندخل في تفاصيله، كوجهة نظر ومقترحات، في مقال قادم.
hsalaiti@kpmg.com