وظيفة للنظام الإيراني تطيل أجله

16-01-2019
حسن العديني

بعد أسابيع قليلة، تكون أربعة عقود مضت منذ نجاح الثورة الإيرانية في إسقاط الشاه، وانبثاق نظام سياسي ما زال يشد إليه اهتمام العالم بتركيبته العجيبة، وبالمشاكل التي يصنعها، والضجة التي يثيرها. مناسبة تستحق التوقف عندها، خصوصاً بالنسبة إلينا في العالم العربي؛ حيث تأثرنا أكثر من غيرنا بما جرى في طهران عام 1979، وقد كان الشعور الغالب هو الانبهار بما حدث؛ ذلك أن الإيرانيين قدّموا مثالاً غير مسبوق في تحدي الرصاص بالصدور والزهور، ولم يقيموا المتاريس، ولم يحملوا البنادق حتى إن عبدالفتاح إسماعيل، رئيس اليمن الجنوبي آنذاك، قال عن تلك الثورة إنها «فريدة بالتاريخ»، لكن الفرادة سترتدي معنى مختلفاً عندما تتحول الثورة إلى نظام سياسي كئيب، لا يتردد عن قمع الشعب عندما يخرج مطالباً برغيف الخبز.
هذا المآل الكئيب ليس منفكاً عن الجذور الأثيمة، فهناك عند البدايات تصدت لقيادات الثورة جبهة عريضة ضمت الحزب الشيوعي، «توده»، ومنظمتي «مجاهدي خلق»، وتجار البازار، والليبراليين بمن فيهم الرموز الباقية من الجبهة الوطنية، ومعهم جميعاً تنظيم الحوزات الدينية، حينها وقعت القوات السياسية في الخطأ الكبير عندما استهانت بالملالي، ونظرت إليهم كجماعة من الماضي غارقة في مواضيع الدين والإيمان بالشعائر، ولم تفطن لما لديهم من الدهاء والمكر وكفاءة التنظيم، ولما يختزنونه من القسوة والاستعداد للبطش، وهكذا لم يمانع القادمون من الماضي في أن تتولى مراكز الدولة العليا وجوه لامعة من قادة الثورة، يجمعون بين العلم والتجربة السياسية، لكن هذا كان فصلاً قصيراً اختتم بإزاحات لم تستثن رئيس الجمهورية المنتخب، ومن بعده دخلت إيران فصلاً جديداً طويلاً ومرعباً، نصبت فيه المشانق، وتدفقت شلالات الدم، وحصد الموت رجال الدولة، وقادة الجيش والطيران والاستخبارات.
في أحشاء هذا الوحش، تمدد نظام حكم غريب ينتخب فيه البرلمان والرئيس، الذي يُساءل أمامه، ويرتجف في حضرة المرشد، وفيه تنشأ هيئات يبدو في ظاهرها أنها تراقب بعضها بعضاً؛ حيث مجلس صيانة الدستور معنيّ بالموافقة أو الرفض للتشريعات الصادرة عن البرلمان، وحيث يتولى دور الحكم بينهما مجلس تشخيص النظام، لكن هذه كلها تخضع لسلطان المرشد الأعلى، وتنفذ إرادته.
في هذا النظام الغريب يبدو رئيس الجمهورية، أشبه برئيس حكومة مقيد الصلاحية؛ فالمرشد هو الذي يرسم السياسة العامة للدولة، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة، والمسؤول عن الصحافة والإعلام والقضاء، وفيه لا مكان لأحزاب سياسية خارج نطاق المؤسسة الدينية، إلى درجة يبدو الفرق بين «الإصلاحيين» و«المتشددين» مجرد اختلاف في تصور الوسائل والمقاربات، وليس في المبدأ، والهدف، وهذا النظام الذي يرفع «اليافطة» الدينية يخفي عنصرية فارسية شديدة التعصب؛ إذ يضطهد أبناء القوميات الأخرى، وإن اتفقت معه ديناً ومذهباً، ثم تمتد نزعته إلى النطاق الجغرافي خارج حدوده فيصبح المذهب مركباً للتوسع، وأداة للسيطرة، وقد تحرك فوق هذا المركب نحو الشرق والشمال، لكنه في الحركة نحو الغرب أضاف إليه استثماراً بائساً للقضية الفلسطينية، ساعده في ذلك مناخ انتصار الثورة الإيرانية عند لحظة فاصلة مريرة في التاريخ العربي؛ حيث وقّع أنور السادات اتفاقية كامب ديفيد مع «إسرائيل».
في عنفوان الغضب هنا في العالم العربي، وعنفوان الثورة هناك في إيران، سُمع صوت الخميني المتحشرج يعلن التصميم على الصلاة في فلسطين قبل أن يوافيه الموت، ثم أطلق نظام الخميني إشارات بطرد البعثة الدبلوماسية «الإسرائيلية» من طهران، واستقبل في مقرها هيئة دبلوماسية تمثل منظمة التحرير الفلسطينية.
وفي طريقه إلى فلسطين، بدأ النظام الإيراني باستفزاز العراق، وجرّه إلى حرب استنزفته ثماني سنوات، وقادت رئيسه صدام حسين في حمأة الجنون إلى غزو الكويت، والتسبب بحرب أمريكية على العراق ومحاصرته، ونعرف أن تلك الحرب قادت إلى مؤتمر مدريد، ثم من بعده وبعيداً عن أضوائه، ذهب الفلسطينيون إلى أوسلو التي يعانون آثارها القاتلة حتى هذه اللحظة.
وفي الطريق إلى فلسطين، دُمّر الجيش العراقي والسوري واليمني، وانخرطت البلدان الثلاثة في حروب أهلية لا ترى نهايتها، وربما لا تكون بصمات إيران واضحة في ليبيا، لكن الذائع أن قطر حليفتها كانت الفاعل العربي الأكبر مع دول الناتو.
وفي الطريق إلى فلسطين، اقتتلت «حماس» والسلطة الفلسطينية، وحدث الانقسام الكبير بين الضفة وغزة، وغدا نتنياهو وسيطاً أميناً ينقل المال القطري إلى حركة «حماس»، وفي هذا الطريق افتتحت الولايات المتحدة مسلسل الاعتراف بالقدس عاصمة ل«إسرائيل».
إن «إسرائيل» نفسها لا تسعى ولا تتمنى إنهاء الدور الإيراني في المنطقة، بل تريده إلى حدود لا تمس أمنها.