التحركات الغاضبة والتحولات الأوروبية

16-01-2019
عاطف الغمري

تشير الشواهد إلى أن تظاهرات «السترات الصفراء» في فرنسا، لن تكتب لها نهاية قريبة، حتى لو أمكن تهدئتها، وخاصة أن هناك ما يوحي بأنها ليست حدثاً تنتهي حركته عند حدود فرنسا، بل يمكن أن تكون حلقة في سلسلة متصلة ببعضها، تتمدد إلى خارج الحدود، كجزء من تحولات أوسع في الدول الديمقراطية التقليدية في الغرب - أوروبا والولايات المتحدة.
جاء انتخاب دونالد ترامب رئيساً لأمريكا كأنه الحلقة الأولى الظاهرة في هذه السلسلة رغم وجود كراهية له داخل الحزب الجمهوري الذي رشح نفسه على قائمته، ولأنه لا ينتمي تنظيمياً إلى مؤسسة الحزب الجمهوري. لكن الجموع التي أعطته أصواتها، بدت تحمل ملامح تحرك تتشابه مع الذين خرجوا في فرنسا تحت مسمى «السترات الصفراء»، والذين تمددت حركتهم إلى دول أخرى في الجوار الأوروبي منها بلجيكا، وألمانيا، وإيطاليا، وإن اتخذ بعضها توجهات تختلف عن السلوك الشعبي التقليدي لإعلان المطالب من خلال المؤسسات التمثيلية الديمقراطية في هذه البلاد.
كان الذين حملوا ترامب إلى البيت الأبيض هم من وصفهم كتاب أمريكيون كبار، بائتلاف الغاضبين والمحبطين، والرافضين للنخبة التقليدية التي تمنع الفكر السياسي لاستراتيجيته الدولية داخلياً وخارجياً، هؤلاء هم حصاد، حركة عمرها ثلاثون عاماً بدأت تنمو تدريجياً داخل المجتمع الأمريكي، في تململ من تحكم النخبة في سياسات الدولة، فضلاً عن حدوث تحولات دفعت الطبقة الثرية إلى مزيد من الثراء، وأثرت اقتصادياً بالسلب على أوضاع الطبقة الوسطى والفقراء، بينهما كانت الطبقة الوسطى هي الكتلة الانتخابية المؤثرة التي يسعى عادة المرشحون للفوز بأصواتها.
وأذكر أن استطلاعاً للرأي كان قد أجري في الولايات المتحدة عام 1998، يحمل سؤالاً واحداً ومحدداً هو: هل لكم تأثير على رسم وتنفيذ سياسات الدولة؟. وجاءت الإجابة من الغالبية بأننا لسنا مؤثرين على سياسة الدولة، بل نحن مهمشون، وأن الذين يملكون النفوذ في هذا الموضوع، هم جماعات المصالح وقوى الضغط، تدعمهم جماعة النخبة.
وقد لوحظ أن ترامب قد ركز أثناء حملته الانتخابية عام 2016، على هذه الجوانب، خاصة هجومه المتصل على النخبة، وبعد وصوله إلى البيت الأبيض، وإبعاده للنخبة عن تولي المناصب في إدارته، وكذلك التناقضات المتتالية في إدارته للسياسة الخارجية، فقد حدثت انقسامات واضحة داخل أمريكا سواء على مستوى الرأي العام، أو داخل النخبة ذاتها. ولعل أكثر ما أوضح قوة الدفع الحقيقية وراء حركة التمرد التي ركب ترامب موجاتها، هو فقدان الثقة في النخبة المحتكرة للتفكير والتنظيم لسياسات الحكم.
لم يتوقف التأمل الهادئ للمحللين السياسيين عند تشخيص حالة ترامب، بل بدؤوا بتوسيع نظرتهم إلى استيعاب ظواهر عالمية أبعد مدى من الحالة الداخلية للولايات المتحدة، واقتناعاتهم بأن انتخاب ترامب، يمثل تحولاً تاريخياً في النظام السياسي الأمريكي، يعكس نهاية التوافق المجتمعي الديمقراطي الذي ميز الغرب كافة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
أحد الذين عكفوا على دراسة هذه الحالة، الكاتب البريطاني المولود في الهند بانكاي ميشرا في كتابه «عصر الغضب» ويقول: ربما يتصور من ينظر لأول وهلة إلى هذه الأحداث المتباعدة جغرافياً، أنها جميعها أجزاء من ظاهرة استياء متزايد، ممن يشعرون بأنهم مهمشون، من جانب طبقات أقوى منهم. وأن الملايين في العالم يشعرون بأن ما كانوا يتمتعون به من مزايا داخل بلادهم، قد تقلصت وتراجعت.
ويلاحظ بالنظر إلى الأحداث التي شهدتها فرنسا من تجمعات لا تقودها أحزاب، أنها تعكس مشاعر التهميش الاجتماعي، وشعور بعض الفئات الاجتماعية بتراجع قدراتها الاقتصادية على توفير احتياجاتها المعيشية، بينما هؤلاء مواطنون في دول متقدمة، سبق أن حققت تقدماً اقتصادياً بالغاً، ووفرت لمواطنيها سبل الرعاية الاجتماعية الشاملة، وأن من يرون أنفسهم الآن من المهمشين، سواء كانوا يحسبون على اليمين أو اليسار، يعتقدون أن النخبة السياسية لا تبذل الجهد الكافي لتخفيف معاناتهم.
ويظهر وسط هذه التحركات التي تمددت إلى دول أخرى في أوروبا، أنها وإن كانت تقدر قيمة تحقيق النمو الاقتصادي والمحافظة عليه، فإنها وفي الوقت نفسه تطرح المطالبة بإعادة توزيع الوفورات الاجتماعية بين مواطنيها، حتى ولو كانت الأنظمة تأخذ بالمفاهيم الرأسمالية المعروفة للاقتصاد، والحد من التحيز للطبقات الأكثر ثراء.
الوضع العام الآن الذي يميز هذه التحركات يعبر عن شعور عام بالغضب والسخط، والرغبة في ممارسة دور أكبر في صياغة القرار. هذا ما كان قد عبر عنه استطلاع الرأي في أمريكا، وما عكسته تظاهرات فرنسا التي طورت مطالبها من الاقتصاد إلى السياسة وهو ما بدأ يمثل سمة للتحولات الأوسع في الغرب بشكل عام.