فتح باب العودة في الاتجاهين

14-01-2019
محمود الريماوي

من سنن الاجتماع البشري أن الجماعات التي تتعرض للاقتلاع والتهجير في أجواء الصراعات ومناخاتها، تظل تسعى إلى العودة إلى مواطنها الأصلية، وعلى الأقل تثبيت هذا الحق باعتباره من حقوق الإنسان الأساسية. يعيد المرء التذكير بذلك، بمناسبة انطلاق مزاعم «إسرائيلية» بمطالبات مالية عن أملاك اليهود الذين كانوا في الدول العربية، الذين التحقوا بالدولة العبرية المقامة منذ العام 1948 على أرض فلسطين.
والحال أن كثيراً منهم خرجوا برغبتهم ونقلوا معهم ما يملكون، أو باعوا أملاكهم، وبعضهم خرجوا إلى دول غربية وأقاموا فيها، وبعضهم الآخر تعرضوا للتخويف والترهيب من قبل الحركة الصهيونية إذا ما بقوا خارج «أرض الميعاد». وبعضهم وهم العدد الأقل تم تهجيرهم بالفعل وتم تجريدهم من جنسية وطنهم الأم.
وفيما تزعم الآلة الدعائية الصهيونية أنه تم تهجيرهم جميعهم، وأنهم فقدوا جميع ممتلكاتهم، ما يستحقون معه التعويض، فإن التساؤل الذي يثور في غمرة ذلك هو: إذا كان هؤلاء اليهود (ومجموعهم يبلغ زهاء 900 ألف وينتسبون في الأصل لما لا يقل عن عشر دول عربية)، قد انتزعوا حقاً من حيث يقيمون، فلماذا لا تتم المطالبة، مجرد المطالبة، بتمكينهم من العودة؟
يستذكر المرء هنا حالة يهود المغرب على سبيل المثال، الذين لم يتعرضوا لأي اضطهاد، وتبوأوا مراكز عالية في بلدهم الأصلي، لكنهم ظلوا يغادرون المغرب تباعاً إلى سنين قليلة خلت، وبينما هاجر شطر منهم إلى فرنسا وإسبانيا وكندا وأمريكا ودول غربية أخرى، إلا أن العدد الأكبر منهم توجّه نحو الدولة العبرية، حتى بلغ عددهم هناك نحو 270 ألفاً، ما جعلهم في المرتبة الأولى عددياً بين اليهود الشرقيين المتحدرين من دول عربية وإسلامية. وقد فتح المغرب لهم باب العودة، فقبل نحو عشرين عاماً أعلن رئيس مجلس النواب المغربي آنذاك عبد الواحد راضي، أن بلاده «لن تسقط الجنسية المغربية عن اليهود الذين هاجروا إلى «اسرائيل»، وأن المغرب لا يمانع في عودة هؤلاء للاستقرار فيه إذا ما رغبوا في ذلك».
وفي مايو (أيار) من العام 2011، أعلن مدير مؤسسة التراث الثقافي اليهودي المغربي شيمون ليفي لإذاعة هولندا «من أراد من المهاجرين اليهود العودة إلى المغرب فحقه مضمون. وهذا هو حق المواطنة». والنتيجة أن أحداً لم يعد، رغم أن حقهم مكفول بالاحتفاظ بجنسيتهم الأصلية! لم يعد أحد ولم يعلن أحد عن رغبته في العودة.
والحال أن غالبيتهم غادروا برغبتهم ونقلوا معهم ممتلكاتهم أو باعوها وقبضوا ثمنها، والآن تريد الدولة العبرية الحصول على مليارات الدولارات، وذلك مكافأة لليهود الذين تخلوا عن أوطانهم الأم ومجتمعاتهم الأصلية، وحلّوا في بيوت الفلسطينيين وعلى أرضهم. لكن وبما أن الدعاية الصهيونية تزعم أن غالبيتهم أخرجوا من دول عربية عُنوة، وبما أن الوقائع التي توثقها الأمم المتحدة تثبت أنه تم اقتلاع الفلسطينيين من وطنهم في العام 1948، فإن كل منطق وحكم سديد يقضي بأن تفتح الأبواب في الاتجاهين، أمام عودة كل من تم تهجيرهم، لتصحيح أخطاء ورفع مظالم تاريخية.
وفي حال بروز عقبات لوجستية أمام عودة جميع من تم خروجهم أو إخراجهم من وطنهم الأم، فإنه من المهم تثبيت هذا المبدأ: مبدأ حق العودة، على أن يصار إلى التفاوض حول سبل تحقيق هذا المبدأ. علماً أن هذه الصيغة تمثل أفضل حل سلمي لتصويب الأخطاء المهلكة التي قادت إلى جملة حروب بين الدولة العبرية والدول العربية، وأوقعت كوارث هائلة بحق الفلسطينيين. وما زال الطرف المعتدي ممثلاً بالحركة الصهيونية ودولتها، مُصراً على عدم تصحيح الأخطاء بل زيادة هذه الأخطاء ومضاعفتها، ويسعى عبر التنكيل الجماعي ومصادرة الأرض واستيطانها، إلى تهجير المزيد من الفلسطينيين من وطنهم، والتبجّح خلال ذلك بالعمل من أجل السلام واستئناف مسار التفاوض. وقد بلغت الخُيلاء والاستهانة بعقول الآخرين، حد ترويج المزاعم بأن اليهود المستوطنين الذين وفدوا من دول عربية هم الضحية التي تستحق الالتفات إليها، لا الفلسطينيون الذين اقتلعوا من ديارهم وفقدوا كل ممتلكاتهم، وأغلقت أمامهم أبواب العودة.. رغم أن كل الصراعات في عالمنا وجدت نهاية طبيعية وفعلية لها، بتمكين الذين اقتلعوا من ديارهم الأصلية من العودة إلى تلك الديار، واستئناف حياتهم في ظروف آمنة. غير أن الصلف الصهيوني يأبى إلا أن يعاند حركة التاريخ والحقوق الطبيعية للبشر، بالسعي إلى منح مكافآت للمعتدين الغزاة، وإسدال الستار على الحقوق الثابتة لأصحاب الأرض ما يجعل السلام بعيد المنال، وإن تحققت بعض التسويات الجزئية هنا أو هناك.

mdrimawi@yahoo.com