سودانُ الزوبعة

14-01-2019
عبد الإله بلقزيز

ما من أحدٍ متمسّك بالمبادئ الوطنيّة والقوميّة يقْبَل أن يكون السودان ساحةً جديدةً لفوضى سياسيّةٍ عارمة -يلعب فيها لاعبون كثر- تتدحرجُ حوادثُها، وتستفحل مخاطرُها إلى الحدّ الذي قد تتَأدّى فيه إلى إسقاط الدولة والكيان. وهي فوضى لا، ولن، يبرِّرها أنّ المطالب عادلة؛ إذ كم من مطلب عادلٍ سُخِّر لتقويض الدولة وتمزيق المجتمع: على ما عاينّاهُ في موجات ما يسمى «الربيع العربي»، فكانتِ النتيجة أنّ الخبز والحرّية والكرامة تبخّرت جميعُها أمام خرائب مجتمعٍ ودولةٍ وخيبات شعوب!
ولكنّ الدفاعَ عن النظام شيء، والدفاع عن السودان -دولةً ومجتمعاً- شيء آخر مختلف تماماً، وما يجري في السودان، اليوم، يَحْمِلنا على وجوب إقامة هذا التمييز وعدم المغامرة بالاندفاع نحو مواقفَ وخيارات لن يكون من مآلٍ لها سوى إصابة شعب السودان وكيانه ووحدته الوطنيّة في مَقْتل. وعلينا، هنا، أن نقول بوضوحٍ شديد إنّه، وأيّاً يكُنْ موقفُ المرء من النظام السودانيّ - إيجاباً أو سلباً، معه أو ضدّه -، فإنّ النّازلة التي تفرض علينا الجواب عنها هي: مستقبل السودان الكيان -السودان الوطن- لا مستقبل النظام السياسيّ فيه. قد يبقى النظام وقد يرحل، مثله مثل أي زعيم آخر، وفي الحاليْن تلك جزئيّةٌ أمام الجوهر الأهمّ: بقاء السودان موحَّداً مستقرّاً، محميّاً من مخاطر الانفراط والتفكيك. وحين توضَعُ المسألةُ على النحو هذا، ويستبين الهدفُ الرئيسي، حينها يمكن أن يُقارَبَ السؤال عمّا إذا كان بقاءُ النظام أو رحيلُه يصبّ في مصلحة الهدف هذا. ولكن، في الأحوال جميعِها، لا يمكن لأحد أن يقرِّر مصير نظام السودان غير شعب السودان، ولا أن يدّعي أنّ تغييرَ النظام هو، وحده، المسألة التي تنطوي عليها الأحداث الجارية في البلاد.
لا نقول هذا الكلام من باب التهويل، أو لغاية حَرْف النظر عن مطالب للمحتجّين، وإنما لأنّنا ندرك مقدارَ ما يتهدَّد السودان، اليوم، في وجوده كياناً جامعاً موحَّداً، مثلما كان يتهدَّدهُ قَبْلاً فتَأدّى به، أمس، إلى التقسيم. كان السودان، منذ زمن، محطَّ أطماعٍ ومؤامرات من القوى الاستعماريّة والصهيونيّة. استكثرت عليه هذه جغرافيتَه الفسيحة، وثرواته الطبيعيّة والمائيّة، وموقعه الجيو- استراتيجي، وأفصحت دوائرُ منها، في مناسبات كثيرة، عن مشاريع لتقسيمه إلى دويلات. وفي النطاق هذا اندرج فصْلُ الجنوب عنه، وإثارة مسألة دارفور، والنزاعات الدينيّة والنعرات العرقيّة فيه.
وكما كان السودان وثرواته محطَّ أطماع، كان النَّيْل منه محطَّة نحو هدفٍ أكبر: النَّيْل من مصر ومن أمنها، وبالتالي، من الأمن القوميّ العربيّ برُمَّته. ومن أسفٍ أنّ النخب السياسيّة التي تعاقبت على حكم السودان منذ ستينات القرن الماضي لم تكن في مستوى التحديات والتهديدات، بل كثيراً ما تعاملت معها بعبثٍ وميوعة، فغرَّمتْ وطنَها غرامات فادحةً. وإذا كانت الأخطاءُ قد قادتِ البلاد إلى ما قادتْها إليه من تقسيمٍ وتخلّف، فالأمل في أن لا تقدّم قطاعاتٌ من المجتمع مساهمتَها -وإنْ من غيرِ قصد- في تخريب البقيّة الباقيّة من وحدة البلاد واستقرارها، من وراء مطالب مشروعة يُساء تصريفُ التعبير عنها.

hminnamed@yahoo.fr