بين الديمقراطية والفوضى

12-01-2019
د. ناجي صادق شراب

كشفت الاحتجاجات التي شهدتها فرنسا على مدار حوالى شهرين، والتي اتسمت بالعنف وقدر كبير من الفوضى، عن مدى التحديات التي تواجه الديمقراطية التمثيلية التي تتباهى فرنسا بأنها أرض الثورة الفرنسية الكبرى، وشعاراتها التي ما زالت تحكم مسار ديمقراطيتها:الحرية والإخاء والمساواة.
فما هي انعكاسات هذه الاحتجاجات على الديمقراطية التمثيلية وما تشهده من تراجعات وتحديات، وصلت إلى حد القول إنها تموت أمام النزعات الشعبوية اليمينية المتصاعدة في كل الغرب، والتي تحمل شعارات مناقضة للديمقراطية، وتتسم بدرجة عالية من العنصرية والقومية الشوفينية والعداء لكل من هو أجنبي.
ما تشهده فرنسا ليس جديداً، فمنذ 1789 رأينا أكثر من ثورة وأكثر من دستور، وصولاً إلى ثورة الشباب عام 1968 التي شارك فيها رموز الفكر والفلسفة أمثال سارتر ودوبريه، والتي انتهت باستقالة ديجول في أعقاب استفتائه الشهير الذي توجه به إلى الشعب الفرنسي، وقدم استقالته إثر ذلك، لأن نتيجة الاستفتاء جاءت سلبية. ومنذ ذلك الوقت شهدت فرنسا احتجاجات وانتفاضات تم استيعابها، لكن أخطرها ما شهدته الأسابيع الأخيرة، والتي وضعت الديمقراطية الفرنسية والرئيس ماكرون، على المحك.
ما شهدته فرنسا وبعض العواصم الغربية، يبرز إشكالية الديمقراطية اليوم. والسؤال من يعبر عن الديمقراطية ويمثلها؟ هل هي ديمقراطية الشارع على حساب ديمقراطية البرلمان؟ وهل الاحتجاجات هي حق للمواطن في أي وقت ليعبر عن رأيه ومطالبه؟
المحتجون تمسكوا بنفس الحق الذي تمسك به ممثلو الديمقراطية التمثيلية ممثلة في البرلمان والرئيس. والديمقراطية كما هو معلوم هي مقاربة سياسية وإيديولوجية، وعقد اجتماعي بين الحاكم والمحكومين، وذلك يذكرنا بفلاسفة العقد الاجتماعي من أمثال روسو ونظرية الإرادة العامة ومنتسيكيو ونظرية الفصل بين السلطات، وفولتير المدافع عن حرية الرأي والتعبير، وأساس هذا العقد أن يقوم الحاكم والنائب المنتخب والمفوض من قبل الشعب لفترة زمنية محددة بدوره، على أن يتجدد تكليفه عبر انتخابات دورية ضماناً لمبدأ تداول السلطة. ويقوم هؤلاء باتخاذ القرارات بما فيه مصلحة المواطن، وهنا الإشكالية التي كشفت عنها الاحتجاجات التي شهدتها فرنسا. فالمواطن يريد تلبية حاجاته المتزايدة ويرى الاستجابة لما يريد، وصانع القرار وإن كان يأخذ في اعتباره هذه الحاجات والمطالب، فقد يكون محكوماً بالقدرات والإمكانات التي تحكم قراره، ولذلك قد تأتي القرارات بما لا يتوافق ورغبة المواطن، وهذا قد يتسبب في ظاهرة الاحتجاجات التي قد تتحول إلى حركة غوغائية، بما يبعد هذه الاحتجاجات عن مسارها السلمي، لأنها جاءت مدعومة من التيارات الشعبوية اليمينية التي تريد إسقاط الحكومة تحت لافتة المطالب الشعبية، ولذلك لم تشارك في هذه الحركات النخب الفكرية والأكاديمية والثقافية، وذلك يكشف حجم التحديات والتهديدات التي تواجه الديمقراطية التمثيلية. فما حدث يعكس التناقض بين الحركات الاحتجاجية أو ديمقراطية الشارع اللامنظم، واللاقيادي، والذي تحكمه الغوغائية من جهة، وبين المؤسسات والعمل الجماعي المحكوم بالضوابط القانونية.
هناك من يرى في الديمقراطية الاحتجاجية وسيلة من وسائل التعبير عن الحقوق في الوقت الذي أصاب النخب الحاكمة التكلس والابتعاد عن بقية المواطنين. وليست المرة الأولى التي تتم فيها مناقشة هذه التحديات، ففي المعنى نفسه يناقش كتاب الباحث الأمريكي مونك «الشعب ضد الديمقراطية»، تراجع الديمقراطية الليبرالية في مواجهة الشعبوية القومية العنصرية، ذلك أن خطورة ما تواجهه الديمقراطية يكمن في أن هذه الاحتجاجات والتراجعات تتم في بيئة سياسية تندفع فيه نحو اليمين القومي الشعبوي المتطرف.
فما يجرى اليوم هو صراع حول الهوية والثقافة والإيديولوجيا، وقدرة الشعبويات على الحشد الجماهيري.
ولا شك في أن أسلوب العنف هو الأقرب لإيديولوجيا الفوضى، وهذا يضع الديمقراطية أمام قوة «ديمقراطية الفوضى».
فالديمقراطية هي تعبير عن بيئة وواقع سياسي مغاير تماماً لواقع الفوضى الذي تحاول أن تفرضه القوى الشعبوية التي تحرك الشارع. فمشاكل الإرهاب واللاجئين والأزمات المالية التي تواجه أنظمة الحكم في الغرب كلها تعطى الفرصة لتراجع الديمقراطية الليبرالية، ما ينبئ بأننا مقبولون على نظام سياسي لم تتبلور معالمه بعد.

drnagishurrab@gmail.com