العقل التركي والميثاق الملّي

12-01-2019
محمد نور الدين

تتدافع التطورات في شمال سوريا. ورغم ثماني سنوات من الحروب والمعارك العسكرية والسياسية، فإن البلاد تبدو أمام مرحلة جديدة تضع النقاط على الحروف لتحدد أكثر ملامح الاصطفافات المقبلة.
إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، نيته الانسحاب العسكري من سوريا لا ينهي الوجود الأمريكي، لا في سوريا ولا في المنطقة. الولايات المتحدة دولة عظمى أولى في العالم، وسوريا مسرح استراتيجي لأحداث المنطقة. وما تزامن الإعلان مع تصريحات متتالية ومتباينة عن جداول الانسحاب غير الواضحة سوى تأكيد على أن الاحتمالات مفتوحة على بقاء الأمريكي من عدمه في سوريا.
أما إعلان مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون، عن طلب بلاده ضمانات من تركيا لعدم التعرض لقوات الحماية الكردية، والغضب التركي من ذلك، ورفض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان استقباله، فلا يؤكد سوى أن تركيا لديها «أجندة» خاصة في سوريا، تريد اقتلاع الأكراد ليس لأنهم كما تصفهم «إرهابيين»، بل لأطماع تركيا في كل الشمال السوري، والعراقي أيضاً.
فهذا الكردي السوري الذي تصفه تركيا اليوم بالإرهابي، هو نفسه الذي استقبلته (زعيمهم السابق صالح مسلم) في أنقرة مع بدايات الحرب في سوريا. والكردي العراقي الذي كانت تصف زعيميه (مسعود البرزاني وجلال طالباني) برؤساء عشائر هو نفسه الذي دعمته ضمناً، أملاً بتفتيت الوحدة العراقية ليتسنى إلحاق قسمه الشمالي بتركيا (مخططات طورغوت أوزال).
تركيا بعد عملية درع الفرات واحتلال مثلث جرابلس - إعزاز - الباب، ومن ثم بعد عملية عفرين واحتلالها، وقبلهما، ومعهما، وحتى اليوم عملية احتلال إدلب تحت مسمى نقاط المراقبة والتفتيش، هذه التركيا عملت، ولا تزال، على قدم وساق على تغيير البنية الديموغرافية بطرد الأكراد، وتغيير وإحلال فئات تركمانية، وآخرين موالين لها محلهم. وعملت على تغيير النظام التعليمي، والمالي، والديني، والإداري فيها كلها، وأقامت بنية عسكرية وأمنية منظمة مدربة في تركيا.
والتحرك التركي هناك يعكس بما لا يدع مجالاً للشك، أن الأطماع التركية في شمال سوريا تأخذ طريقها للتنفيذ تحت أكثر من عنوان، ومسمى.
ولا تخرج هذه النشاطات عن هدف أساسي وهو إلحاق هذه المناطق بشكل، أو بآخر، بالإدارة التركية، ووضعها في أسوأ الأحوال تحت النفوذ التركي.
وقد شهدنا عدداً كبيراً من التصريحات والمواقف منذ صيف 2016 على لسان أردوغان ومسؤوليه التي تعتبر أن هذه المناطق كانت جزءاً من الخريطة التي وضعها البرلمان التركي في 28 يناير/ كانون الثاني 1920 لحدود تركيا الجديدة بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وعرفت باسم «الميثاق الملي». وقد ضمت الخريطة كل شمال سوريا والعراق ضمن الحدود الجديدة.
لكن الاتفاقيات اللاحقة لم تتح لتركيا تطبيق خريطتها، وانتهى الأمر إلى أن تكون حدود تركيا على ما هي عليه الآن.
لكن العقل السياسي والفكري التركي لم يستطع أن يتقبل، ويهضم الوقائع الجديدة، وبقيت مسألة ما عرف بحدود «الميثاق الملّي» غصة في حلق النخب التركية، وعلى رأسهم رجب طيب أردوغان.
لكن ما قاله وزير الداخلية التركية الحالي سليمان صويلو قبل أيام، وربما لم ينتبه له الكثيرون، أمر يعكس ويؤكد أن الأطماع التركية في شمال سوريا والعراق ثابتة، ولم تغادر لحظة العقل التركي الذي ينتظر الفرصة المناسبة لتحقيقها.
قال سليمان صويلو حرفياً: «إن 62 في المئة من اللاجئين السوريين في تركيا جاؤوا من أراضي حدود الميثاق الملي. وفي معركة تشاناق قلعة (خلال الحرب العالمية الأولى) سقط 1102 شهيد من سوريا.
ومنذ العام 2011 قدمت تلك الأراضي 71 ألفاً و923 شهيداً من أجل بلادهم. ولا يمكن بعد هذا أن نقول ما الذي يفعلونه هنا(في تركيا)».
أن يصل العقل التركي إلى أن يقوم بحسابات على أساس نسبة من نزحوا إلى تركيا من الأراضي السورية التي كانت ضمن حدود «الميثاق الملي»، ونسبة من قتلوا من أبناء هذه الأراضي حصراً، دون غيرهم من بقية الأراضي السورية، فهذا أمر لم يسبقه إليه أحد، ولا يمكن وصفه إلا بالعقل الشيطاني الذي يتوجب اقتلاعه من جذوره، وهذه مسؤولية كل المتضررين من الأطماع التركية في كل المنطقة العربية التي لا تعرف حدوداً.