الملف النووي الإيراني.. السياق والتداعيات

11-01-2019
د.إدريس لكريني

كانت الولايات المتحدة أول دولة سباقة لامتلاك السلاح النووي إثر تجربتها النووية في صحراء «نيفادا» في شهر يوليو/تموز من عام 1945، وقصفها مدينتي «نكازاكي»، و»هيروشيما» اليابانيتين خلال السنة نفسها؛ ليتوالى بعد ذلك سعي الكثير من دول العالم إلى امتلاك هذا السلاح الاستراتيجي، كما هو الشأن بالنسبة لروسيا والصين وفرنسا وإنجلترا. وبالرغم من عدم استعماله منذ سنة 1945، فإن مجرد امتلاك هذا السلاح يشكل تهديداً حقيقياً للسلم والأمن الدوليين.
وينطوي استخدام أسلحة الدمار الشامل على خطورة كبرى في عالم اليوم، بالنظر إلى كلفتها الخطيرة، وغير المحسوبة في ظل التطورات الهائلة التي طالت التكنولوجيا الحديثة. وتتباين العوامل والخلفيات التي تتحكّم في سعي الدول إلى امتلاك هذا السلاح الاستراتيجي، بين من ترى فيه وسيلة لتأمين نفسها في مواجهة تهديدات خارجية محدقة، تشكلها قوى إقليمية ودولية؛ وبين من ترى فيه مقوماً أساسياً يتيح لعب أدوار كبرى على الصعيد الدولي، وبين من تعتبره مدخلاً لحماية النظام السياسي القائم، وهو ما ينطبق على حالة كوريا الشمالية، فيما ينتشر هذا السلاح بسبب صراعات إقليمية؛ كما هو الحاصل بين الهند وباكستان.
وتصرّ الكثير من الدول على حقها في امتلاك الطاقة النووية وتوظيفها في المجالات السلمية، استناداً إلى القانون الدولي والاتفاقيات الدولية والإقليمية ذات الصلة، غير أن هذا الحق كثيراً ما يوظّف بصور منحرفة تهدّد السلم والأمن الدوليين، وبخاصة إذا ما سقطت هذه التكنولوجيا بين أيدي نظم سياسية شمولية.
وتسعى معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية التي بدأ التوقيع عليها منذ عام 1968 إلى الحدّ من تمدّد الأسلحة النووية بالنظر إلى خطورتها على مستقبل السلم والأمن الدوليين، وعلى مستقبل البشرية بشكل عام، حيث وقعت عليها أكثر من 180 دولة، كما تعمل على التحسيس بخطورة الانتشار النووي العسكري، وتعزيز التعاون والتنسيق الدوليين لمنع الانتشار أو إجراء تجارب عسكرية في هذا الخصوص، واعتماد الضمانات التي تضعها الوكالة الدولية للطاقة الذرية في هذا الصدد، وتشجيع الدول على الاستخدام السلمي لهذه الطاقة الحيوية، مع التأكيد على ضرورة الالتزام بمبدأ الأمم المتحدة المرتبط بمنع استخدام القوة العسكرية، أو التهديد باستعمالها في العلاقات بين الدول..
ورغم الجهود الدولية المبذولة على سبيل احتواء انتشار هذا السلاح في مناطق مختلفة من العالم منذ وضع هذه الاتفاقية؛ إلا أن ذلك لم يحل دون تزايد هذا الانتشار في عدد من الدول الأخرى، كالهند وباكستان وكوريا الشمالية و»إسرائيل».
ومنذ قيام «الثورة الإسلامية» في أواخر السبعينات من القرن الماضي، وإيران تسعى جاهدة إلى الاستئثار بدور إقليمي وازن على مستوى منطقة الشرق الأوسط، وتوظيف المتغيرات والتحولات الإقليمية لمصلحتها، وتطوير منظومتها العسكرية، إضافة إلى السعي إلى تصدير «ثورتها» وضمان تمدّدها نحو الخارج، مع الحرص على تطوير إمكاناتها الاقتصادية والعسكرية. وقد بذلت جهوداً كبيرة في سبيل تطوير برنامجها النووي، مستخدمة في ذلك كل السبل والوسائل الشرعية وغير الشرعية، متذرّعة بحقها في توظيف الطاقة النووية لأغراض سلمية.
بدأ العمل بهذا البرنامج خلال منتصف السبعينات من القرن الماضي، مع إطلاق الشاه «محمد رضا بهلوي» مشروعاً في هذا الصدد، قبل أن يتوقف هذا الأخير في أعقاب الثورة واندلاع الحرب بين إيران والعراق. فقد أسهمت الضّربات التي تلقتها خلال حربها مع العراق، في السعي الحثيث لتعزيز إمكاناتها الرّدعية وطموحاتها النووية، كسبيل لمواجهة التهديدات الخارجية المحتملة، وكردّ على التوجهات العراقية حينها لامتلاك أسلحة دمار شامل.. وسعت إيران بعد ذلك إلى تعزيز التعاون مع بعض الدول كفرنسا والصين وباكستان وروسيا على طريق تكوين الموارد البشرية، وتطوير البنيات التحتية ذات الصلة بهذا البرنامج، قبل أن تتنامى الشكوك الدولية بصدد الملف (2004- 2015)، وإطلاق مفاوضات حول الموضوع، قبل إحالته إلى مجلس الأمن الذي فرض عقوبات صارمة على إيران، وبخاصة بعد إعلان هذه الأخيرة وقف تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة النووية.
واستطاعت إيران على امتداد أكثر من عقدين، أن توظّف مجموعة من الخيارات في سبيل تحقيق حلمها النووي، فبالموازاة مع المسار التفاوضي والدبلوماسي التي انتهجته مع عدد من القوى الدولية الكبرى في هذا الخصوص، ظلّت تبعث بين الفينة والأخرى رسائل مبطّنة لخصومها من كونها تملك آليات ردع قادرة على مواجهة كل التحديات المحتملة، وهو ما تعكسه التجارب الصاروخية والعسكرية في هذا الصدد، بصورة قد تؤثر في مسار المفاوضات، وتجعلها تكسب وقتاً كافياً يسمح لها بتطوير إمكاناتها النووية بعيداً عن أية رقابة دولية.
ولا يخفي بعض الباحثين تحمّسهم للتوجّه النووي لإيران، معتبرين أن الأمر سيشكل مدخلاً لإعادة التوازن الاستراتيجي في المنطقة في مواجهة الترسانة النووية «الإسرائيلية» التي يلفّها الغموض والالتباس ، والحقيقة أن هذا الرأي وبمنطق واقع العلاقات الدولية؛ لا يخلو من مبالغة ومجازفة، وهو ما تعكسه التجربة الباكستانية في هذا الصدد، حيث روّج لها البعض في أعقاب الإعلان عن دخول البلاد إلى النادي النووي، بأن الأمر يتعلق بولادة «القنبلة النووية الإسلامية» غير أن واقع الممارسة على امتداد أكثر من عقدين من الزمن، أثبت أن الأمر لا يعدو كونه شعاراً طوباوياً، ولم يثبت أن وظّف هذا الملف قط في خدمة قضايا إسلامية عادلة، كالقضية الفلسطينية.
ويعتقد الكثير من الخبراء الاستراتيجيين أن التوجه النووي الإيراني، لا يستهدف ردع «إسرائيل»، أو حثها على احترام الحقوق المشروعة للفلسطينيين، كما تحاول الترويج لذلك إيران، بقدر ما ينحو إلى تعزيز الهيمنة والتمدّد في منطقة الخليج العربي..
ولذلك،لا يمكن فصل التّطلعات النّووية لإيران عن مشروعها التوسعي في محيطها الإقليمي. وهو ما تؤكّده السياسات الإيرانية المعادية تجاه عدد من دول المنطقة، بالموازاة مع تطوير برنامجها النووي.
drisslagrini@yahoo.fr