عسى أن نلتقي

10-01-2019
نور المحمود

لم يعد قاموسنا في اللغة المحكية نفس قاموس زماننا البعيد والقريب. لم تعد الكلمات تؤدي الوظيفة نفسها، ولا العقل واللسان يسيران على نفس خط الحياة وإيقاعها.
«عسى أن نلتقي قريباً»، خرجت من قاموس زمان واتخذت مسلكاً آخر، لتصير رفيقة أيامنا وربما الأكثر تكراراً وبشكل تلقائي وعفوي.
«عسى أن نلتقي قريباً»، كم مرة رددتَها وعنيتها ونويت تحقيقها فعلاً، بل استبدلت «عسى» ب «لا بد» و«يجب» و«سوف».. ثم تقاذفتك رياح الأيام فتراجع الوعد ليصير «أمنية مؤجلة»؟
كم مرة ختمت بهذه العبارة حديثك مع صديق أو قريب أو حتى نسيب لك، مع وعد بتحقيقها خلال أيام أو أسابيع، مستغرباً كل منكما طول الغياب بلا سبب ملموس وأنتما تعيشان على بعد كيلومترات قليلة أو مدى شارعين لا أكثر، وإذا بها تدخل في خانة النوايا الحسنة والمودة المعلقة على حبال «الوقت» و«زحمة الحياة»؟
كم صار صعباً اللقاء بين الأحبة وتخصيص وقت كاف لهم! كم صارت الالتزامات والواجبات هي التي تفرض نفسها، فنضحي بأوقاتنا الثمينة والجميلة مرددين في داخلنا الوعد الدائم، «غداً سوف أتصل بهم ونلتقي»؟!
نطمع في امتداد العمر والحياة، فنؤجل لقاء الأحبة والأوقات السعيدة، وكأننا نمسك العمر بين كفينا ونتحكم بالمصائر. نتفاءل بالغد، فنركن إلى «التأجيل» المستمر واللامنتهي. دائماً هناك أولويات، وانشغالات، والتزامات، ولكثرة اللهاث نستغل كل فسحة من وقت الفراغ للاستراحة، والتي تكون «بلهاء أحياناً»، أي إننا نضيّع فيها الوقت بلا راحة حقيقية وبلا فائدة أو متعة.
اللقاء بمن نحب، هذا الوعد المؤجل في زمن الأمنيات التي تقف على كل لسان وتسكن البال دائماً، وتبقى عالقة خلف قضبان الواقع الذي ينهش نهاراتنا، والذي يجعل «الافتراضي» أكثر واقعية من الأمنيات والأحلام.
الغد أقرب إلينا من اليوم، المؤجّل أكبر من المنجَز، هل نتكاسل أم نتكئ على سرعة التواصل الإلكتروني ونطمئن أن الكل بخير وكفى؟ هل تشبعنا الرسائل فعلاً فتغنينا عن رؤية الأصدقاء والتحاور معهم؟
لن تحل الرسائل أزمة الغياب ولا تطوي المسافات دائماً؛ كل لقاء بصديق أو عزيز يحيي المشاعر فنتلذذ بالتفاعل الحقيقي، وننتعش وكأن الهواء يتآمر مع المكان والمقاعد والجدران ليحيطونا بهالة من الفرح والجمال، التحية تنبع من القلب، السلام يصير حاراً، الحوار يسرّع خطاه فيفرد أجنحته ويحلق عالياً ويتمدد.. تتسع الصدور للمزيد من الألفة والمودة والسعادة، وفي ختام اللقاء نعيد تكرار الوعد «سوف نلتقي قريباً ولن نطيل الغياب مرة أخرى».. ثم يأتي الغد بصفحة جديدة، ويصير اللقاء وعداً مؤجلاً إلى أجل غير محدد.

noorlmahmoud17@gmail.com