اختراع يهود جدد!

08-01-2019
حافظ البرغوثي

عندما ينضب مخزون الهجرة اليهودية إلى فلسطين، يظهر باحثون ليعلنوا اكتشاف مجموعة من اليهود المنسيين في الهند أو الصين أو إفريقيا ثم تجري محاولات لتعليمهم اليهودية ثم تهجيرهم إلى فلسطين وفقاً لحاجة الاحتلال. وآخر بحث مزعوم نشر في الإعلام «الإسرائيلي» نقلاً عن مجلة «نيتشر كوميونيكيشنس»، ويزعم أن قرابة ربع سكان قارة أمريكا اللاتينية هم من أصول يهودية، وأن أجدادهم هاجروا هرباً من ملك إسبانيا بعد سقوط الأندلس. بالطبع لا ينظر إلى هذه الأبحاث نظرة علمية من قبل خبراء مختصين، لأنها مجرد هرطقات لأسباب سياسية؛ إذ سبق أن ادعى باحثون يهود أن قبائل الباشتون في أفغانستان هم قبائل يهودية تائهة لمجرد أنهم يختنون أطفالهم، مع العلم أن الختان موجود لدى كل المسلمين عرباً وغير عرب. وقبل ذلك ادعى باحثون يهود أن أغلب سكان فلسطين الحاليين، وخاصة بدو النقب هم يهود أصلا اعتنقوا الإسلام بعد الفتوحات، مع العلم أن العرب موجودون في فلسطين والعراق وسوريا قبل الإسلام. وزعم البحث وجود علاقة وراثية بين المستطلعة آراؤهم في خمس دول لاتينية واليهود الذين طردوا من البرتغال وإسبانيا بالرغم من اعتناقهم المسيحية، وأن نسبتهم تبلغ 23 في المئة من سكان أمريكا الجنوبية، وادعى البحث أن اسم اللاعب ليونيل ميسي، هو اسم عبري مشتق من مشيح أي المسيح، وأن اسم اللاعب سواريس من اسم عائلة يهودية هو زوارتس، وهكذا يتم بناء تاريخ وتحريف الأسماء والنسب الوراثي بناء على التزوير.
كان الباحث البروفسور شلومو ساند، الذي يحاضر في بريطانيا بعد أن ألف ثلاثة كتب تاريخية وطرد من جامعة تل أبيب بسببها، أشار بتعمق إلى قصة اختراع أرض وينفي ارتباط اليهود بفلسطين، ثم كتاب «اختراع شعب» ثم أصدر كتاباً ثالثاً هو «لم أعد يهودياً».
يعتبر كتاب «اختراع شعب» من أكثر الدراسات المثيرة إن لم يكن الأكثر إثارة في تاريخ اليهود التي رأت النور خلال السنوات الأخيرة. ويقوم ساند، فيه برحلة نبش تمتد على مدار آلاف السنوات إلى الوراء، كانت حصيلتها النهائية طرح مسهب يثبت أن اليهود الذين يعيشون اليوم في «إسرائيل» وفي أماكن أخرى من العالم ليسوا على الإطلاق أحفاد «الشعب العتيق» الذي عاش في «مملكة يهودا» إبان فترة «الهيكل الثاني». وبحسب ما يقوله، فإن أصولهم تعود إلى شعوب متعددة اعتنقت اليهودية على مرّ التاريخ في أماكن شتى من حوض البحر الأبيض المتوسط والمناطق المجاورة، وإن هذا يشمل أيضاً يهود اليمن (بقايا مملكة حمير في شبه الجزيرة العربية التي اعتنقت اليهودية في القرن الرابع الميلادي) ويهود أوروبا الشرقية الإشكنازيين (وهم من بقايا مملكة الخزر التي اعتنقت اليهودية في القرن الثامن الميلادي).
وخلافاً للمؤرخين «الإسرائيليين» الجدد الذين سعوا إلى تقويض مسلمات التاريخ الجغرافي الذي وضعته الحركة الصهيونية لا يكتفي ساند، في هذا الكتاب بالعودة إلى سنة 1948 أو إلى بداية الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر، بل يبحر آلاف السنين إلى الوراء، ساعياً إلى إثبات أن الشعب اليهودي لم يكن أبداً «شعباً عرقياً» ذا أصل مشترك، وإنما هو خليط كبير ومتنوع لمجموعات بشرية تبنت خلال مراحل مختلفة من التاريخ الديانة اليهودية.
وبحسب قوله، فإن النظرة الميثولوجية إلى اليهود كشعب عريق أدّت بعدد من المفكرين الصهاينة إلى تبني فكر عنصري تماماً.
ويضيف أنه «في مرحلة معينة من القرن التاسع عشر أخذ مثقفون من أصل يهودي في ألمانيا على عاتقهم مهمة اختراع شعب بأثر رجعي، وذلك من منطلق رغبتهم الجامحة في اختلاق قومية يهودية عصرية. ومنذ المؤرخ هاينريخ غيرتس، شرع كتاب ومثقفون يهود بإعادة كتابة تاريخ اليهود كتاريخ شعب تحول إلى شعب مشرد وانعطف في نهاية المطاف ليعود إلى وطنه».
ونذكر أنه قبل قبل سنوات زار سفير «إسرائيلي» في نيوزيلاندا إحدى الدول الصغيرة في محيطها، وهي جزيرة نائية ما زال سكانها أشباه عراة ويعودون بلونهم الأسمر المائل إلى السواد إلى الجنس البولينيزي؛ فإذ به يقول إنهم بقايا قبيلة يهودية تاهت في تلك الجزر. بل وذهب وزير «إسرائيلي» قبل فترة إلى إنكار وجود مملكة قبائل الخزر على بحر قزوين وهي مملكة موثقة تاريخياً واعتنق ملكها اليهودية حتى لا يعادي الخلافة العباسية المجاورة ولا الإمبراطورية البيزنطية معاً، وأرسل لهم الوزير بن ميمون، من الأندلس وفداً ليعلمهم الديانة اليهودية، ولم تدم المملكة طويلاً وانهارت وتفرق يهودها في روسيا وأوروبا الشرقية، وهم في أغلبهم من هاجروا إلى فلسطين. ولعل المؤرخ الرحالة العربي أحمد بن فضلان، هو أول من كتب تاريخ روسيا وأواسط آسيا وبلاد البلغار في أواخر زمن الدولة العباسية في رحلته لبناء مسجد للتتار وحمايتهم من غارات يهود الخزر.

hafezbargo@hotmail.com