العودة إلى المسألة الطبقية في سوريا

07-01-2019
حسام ميرو

أكل التوصيف السياسي للنظام السوري ما عداه من توصيفات، مرتبطة بالطبيعة الطبقية للنظام، وقد اختفى الصراع الطبقي، وكل مدلولاته، خلال السنوات السابقة، من حيّز التداول الفكري، حيث انصبّت معظم الاشتغالات الفكرية والبحثية على مسائل راهنة، مثل العسكرة، والإسلام السياسي، والأدوار الإقليمية والدولية. وقد أكل الراهن، في كل محطة من محطات السنوات السابقة الكثيرة، مسائل أكثر ديمومة، ولا تقل، من حيث جدواها، عن تلك المسائل التي شغلت الكتّاب والباحثين، وربما قلة قليلة نبّهت إلى الطبيعة الطبقية للصراع في سوريا، من دون أن تكون مؤثرة في مجرى الأحداث.
ثمة مراحل عديدة كان يمكن الوقوف عندها في سياق تحليل الصراع الطبقي، خصوصاً التحوّلات التي حدثت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، والكيفية التي استجاب بها النظام السياسي لتلك التحوّلات، خصوصاً مع إصدار القانون رقم «10» للاستثمار، في الرابع من مايو/ أيار عام 1991، والذي كان قاطرة التحوّل الفعلي نحو التخلي التدريجي عن فعالية القطاع العام، في مجالات مهمة، ومنح القطاع الخاص دوراً كبيراً، مع مزايا كبيرة في التسهيلات والإعفاءات الضريبية، وحتى في التمويل من قبل البنوك المحلية.
لقد تمكّن الرئيس الراحل حافظ الأسد، في عقد الثمانينات من القرن الماضي، من رشوة المجتمع السوري، عبر فتح باب التوظيف أمام شرائح واسعة، في القطاع العام، من دون أن يكون هناك إنتاج فعلي، في الوقت الذي كان فيه النظام قد ضرب أحزاب المعارضة السياسية، السياسيين، وزج معظم قياداتها وكوادرها في السجون، ومع سقوط الاتحاد السوفييتي، أدرك النظام السوري ضرورة إجراء تحوّلات سريعة في طبيعة الاقتصاد، لتكون أكثر ملاءمة للعلاقة مع الغرب، والانفتاح التدريجي عليه، بما يسمح له بالمراوغة، وإعادة تخليق شرعيته.
لم يكن إصدار القانون رقم «10» للاستثمار فقط لمغازلة الغرب المنتصر، وإعادة موضعة النظام في الخارج، بل أيضاً لإعادة توليد العلاقات والنفوذ في الداخل، وإعادة بناء التحالفات بين الطبقة السياسية وبين طبقتي التجار والصناعيين، خصوصاً مع تحسس النظام بضرورة توزيع المنافع، في الوقت الذي تحدث فيه تحوّلات خارجية سريعة، من بينها حرب الخليج الثانية، ووجود ترتيبات جديدة للقضية الفلسطينية، ستتكشّف ملامحها لاحقاً مع اتفاق أوسلو.
وبعد تولّي بشار الأسد السلطة عام 2000، أخذ القرار الاقتصادي يتمركز بيد الحلقة الضيّقة من الرئاسة، التي استولت على المشاريع الريعية الكبيرة، مثل الخليوي، وخلال أربع سنوات من الحكم، ارتفعت نسبة البطالة في سوريا بدرجة كبيرة، ووصلت، بحسب المكتب الوطني للإحصاء، في عام 2014، إلى 12.3 %، وقد كانت قبل تسلّمه للسلطة 8.2%، كما بلغت نسبة الشباب العاطلين عن العمل حوالي 72% من مجمل العاطلين في إحصائية 2004.
لقد كان من صميم اهتمام النظام السياسي في عام 2011 أن يصرف الأنظار عن أي علاقة عضوية بين هبّة السوريين والصراع الطبقي، فمن شأن بروز تلك العلاقة، وتصدّرها المشهد، أن تتخطى الحدود الهويّاتية الضيّقة (الدينية، والمذهبية، والعرقية، والعشائرية، والمناطقية)، وأن تبني تحالفات مختلفة بين السوريين، وأن تبرز قيادات معارضة من طبيعة مختلفة عما شهدته الحالة السورية.
من جهتها، ركّزت المعارضات السورية، على اختلاف انتماءاتها الأيديولوجية، على الطابع السياسي للصراع، واختزاله بصراع مع النظام السياسي، من دون التركيز على الطابع الطبقي للنخبة السياسية الحاكمة، أو الطابع الطبقي للصراع، بين فئات مفقرة ومهمّشة وبين نخبة احتكارية، وهو ما يفسر إلى حد بعيد، تحوّل الصراع، بشكل من الأشكال، إلى صراع على السلطة السياسية.
الأحزاب والتيارات التي قادت المعارضة السياسية، في السنوات الأخيرة، تحمل في مجملها نفساً ليبرالياً غير منظّر له، وأحادي الجانب، من دون أي تطابق بين توجهها الليبرالي والقيم الاجتماعية والسياسية لليبرالية، خصوصاً أن معظم الأحزاب والتيارات السورية التي انخرطت في المعارضة لا تمتلك رؤية طبقية للصراع، أو رؤية اقتصادية بخصوص الصراع، أو لما بعد الصراع.
إن عملية استعادة الوعي الطبقي للصراع ليست مسألة فكرية- بحثية محضة، بل مسألة سياسية بامتياز، فهي واحدة من الروافع التي يمكن أن تسهم، على الدوام، في بناء الحوامل الاجتماعية، خصوصاً بعد أن انتهكت الهويّات الفرعية البنى الاجتماعية، ومحمولاتها التاريخية، ومشتركاتها الثقافية.

husammiro@gmail.com