في ستينية الثورة الكوبية

06-01-2019
كمال الجزولي

أعادتني الذكرى الستون (2019) لانتصار الثورة الكوبية في الأول من يناير 1959، إلى كراسة جابرييل جارسيا ماركيز «كوبا في زمن الحصار»، حيث خط الكاتب العالمي هوامش قيّمة عن بعض أهم فترات الثورة في أمريكا اللاتينية. تشمل هذه الهوامش أجواء هافانا المضطربة، آنئذ، والحصار الأمريكي القاسي لبلد كان يستورد من واشنطن نحو 30000 سلعة، من فرش الأسنان إلى خدمات الفنادق ذوات العشرين طابقاً، كما تشمل التمترس الشعبي الأسطوري تحت شعار كاسترو: «الوطن أو الموت»! ولأن ماركيز عايش تلك الأوضاع، وقتها، كمراسل لوكالة «برنسا لاتينا» في هافانا، فقد اختزلها في محادثتين قصيرتين، دارت أولاهما بينه وبين نادل مطعم جاءه ماركيز، ذات ليلة، جائعاً، فلم يجد سوى فنجان قهوة وخبز بلا زبد، فتساءل عما جرى للطعام، ليفاجئه النادل بقوله: «لا شيء.. سوى أن هذا البلد ذهب مع الشيطان»! أما المحادثة الأخرى فقد دارت بين عاملتي هاتف، أمريكية بنيويورك، وكوبيّة بهافانا. وعلى حين عبّرت الأولى عن خوفهم مما قد يحدث، ردت عليها الكوبية قائلة: «أما نحن، هنا، ففي غاية الاطمئنان، لأن القنبلة الذرية لا تسبب أي ألم»!
سمع ماركيز بكاسترو، لأول مرة، عام 1955، أيام إقامته، مع عصبة لاتينيين، في شارع يغصّ بالفنادق الرخيصة بباريس، يقتاتون الجبن الزنخ والقرنبيط المسلوق، بانتظار الحصول على تذكرة عودة، ما عدا الشاعر نيكولاس جيين الذي كان منفياً يعيش، بلا رجاء، في فندق سان ميشيل الكبير! كانت أبلغ تعبير عن حالة القارة، وقتها، صورة تذكارية لرؤساء الدول الأمريكية، غارقين في جلبة من البزات والميداليات العسكرية، وهم يعقدون، في العام السابق، مؤتمراً ببنما. وذات صباح فتح الشاعر المنفي نافذته وصاح بنبأ جديد: «لقد سقط الرجل»! على الفور هاج الشارع بالظنون، فقد حسب الأرجنتينيون «الرجل» المعني خوان بيرون، وحسبه الباراجويون ألفريدو سترويسنير، وحسبه البيرويون إمانويل أودريا، وحسبه الكولومبيون جوستافو بينيلا، وحسبه النيكاراجويون أناستازيو سوموزا، وحسبه الفنزويليون ماركوس خيمينث، وحسبه الجواتيماليون كاستيو أرماس، وحسبه الدومينيكانيون رافائيل تروخيو، وحسبه الكوبيون فولخينسيو باتيستا. ولم ينتقص من مبررات تلك الظنون كون الذي سقط، في الواقع، هو خوان بيرون!
في ما بعد، وأثناء تعليقات المنفيين والمهاجرين على الحدث، رسم نيكولاس صورة محزنة لكوبا، خاتماً حديثه بقوله: «الأمل الوحيد شاب يتحرك بنشاط في المكسيك، اسمه.. فيدل كاسترو»!
بعد ثلاث سنوات، وخلال وجود ماركيز في كراكاس، شق اسم كاسترو طريقه بقوة إلى القارة بأسرها. مع ذلك كان ثمة يقين عام بأن الثورة لم تبدأ مسيرتها في كوبا، بل في فنزويلا، حيث نجحت انتفاضة شعبية، مطلع العام السابق، في تقويض جهاز قمع ماركوس خيمينث كله خلال أربع وعشرين ساعة فقط!
ربما لهذا حرص ماركيز على المضاهاة بين أسلوبي التخلص من أكبر طاغوتين في أمريكا اللاتينية وقتها: خيمينث في فنزويلا وباتيستا في كوبا. في الحالة الفنزويلية أصدر تحالف أحزاب مختلفة، يسانده قسم من الجيش، نداءً للأهالي بأن ينفذوا، في الثانية عشرة من ظهر 23 يناير 1958، عصياناً مدنياً، وإضراباً عاماً، وينزلوا إلى الشوارع، لإسقاط النظام! ومع أن النداء بدا، للوهلة الأولى، ساذجاً، إلاّ أن شوارع كركاس اكتظت، في الموعد المحدد، بحركة مرور هائلة، وضجيج أبواق خرافي، وحشود عمال، وطلاب، وكادحين تدفقوا من البيوت، والمصانع، والمكاتب، ومدرجات الدراسة، وأكواخ الصفيح، ليواجهوا نظام خيمينث بالهتاف، والحجارة، وزجاجات المولوتوف! وما كادت تنقضي سوى بضع ساعات حتى كان النظام يتقوض إلى آخر مدماك، بينما كان الجنرال نفسه يبعث بأسرته، على ظهر دبابة، إلى إحدى السفارات، ثم يسابق الريح إلى مطار كارلوتا، ليفرّ هروباً عجولاً إلى سانتو دومينجو على متن طائرة نسي معاونوه أن يجهزوا لها سلماً، فاضطروا لرفعه إليها بحبل، كطفل ضخم مفزوع يضع نظارة إطارها من قواقع السلاحف، دون أن يفطن إلى أنه نسي، أسفل الطائرة، حقيبة يد جلدية سوداء كان حشر فيها، كيفما اتفق، عشرة ملايين دولار.. كمصروف جيب!
أما كوبا فقد تفجرت فيها، بعد قرابة العامين من ذلك، انتفاضة «سييرا مايسترا» الفلاحية، بقيادة كاسترو وجيفارا، لتكشط من جزيرة السكر والتبغ الفاخر قوات مأجورة كانت بمثابة جيش احتلال، ولتجبر باتيستا على إدارة ظهره لقادة ينتعلون الأحذية الحديثة.
تتضمن الكراسة كذلك فصلاً طريفاً عن كاسترو. ليس تاريخاً، ولا سيرة غيرية، إنما أحد أبدع وأمتع ما صادفني من «كلوز أب» أدبي أو صحفي. كما لا يقل قيمة الفصل الآخر الذي خصصه ماركيز لعلاقة إرنست همينجواي الغامضة بكوبا، قبل وبعد الثورة، فضلاً عن الفصلين الأخيرين «ساعات جراهام جرين العشرين في هافانا»، و«أزمنة الكوكا كولا».

kgizouli@gmail.com