أحاديث يناير.. المواطنة والتمييز

06-01-2019
عبد الله السناوي

لم تطل فترة الآمال المفتوحة على مستقبل جديد. في المشاهد الأولى الملهمة لثورة 25 «يناير» تجلت وحدة السبيكة الوطنية المصرية، حيث صلى المسلمون في ميدان التحريربحراسة الأقباط خشية أية اعتداءات مباغتة، ومارس الأقباط طقوس عبادتهم بحماية المسلمين.
بدت مصر كأنها تفتح صفحة جديدة تدمج الأقباط كمواطنين، لا بحسب هويتهم الدينية، في العمل السياسي الوطني باتساع أفقه على قيم المواطنة.
كان ذلك شيئاً رائعاً سرعان ما تقوضت روحه وتراجعت رسالته، وجرى استقطاب طائفي بدأ يتسع مداه حتى وصلنا إلى مشروع فتنة في الاستفتاء على التعديلات الدستورية (مارس/ آذار ٢٠١١).
أطلت الفتنة بحشد طائفي لا علاقة له بموضوع الاستفتاء بقدر ما أراد توظيف الثورة على عكس مقاصدها.
وفيما طلبت «يناير» بناء نظام سياسي جديد يلتحق بعصره يضمن الحريات العامة ويصون حقوق المواطنة، علت بالحشد الطائفي دعوات الدولة الدينية، والتحريض ضد الأقباط.
كانت فكرة الاستفتاء بتوقيتها المبكر وأهدافها المعلنة وغير المعلنة، وبالأجواء التي صاحبتها، والتداعيات التي لحقتها، خطيئة لا تغتفر أضرت بالثورة، وأربكت الخطى قبل أن تستقر على أرض.
وبعد شهرين من الاستفتاء، وأربعة شهور من الثورة، أطلت الفتنة الطائفية على المشهد المعبأ في صدامات مروعة. «هذه أزمة تفرض على كل الناس مواجهتها بنزاهة، لأنها في هذه اللحظة أكبر من كونها فتنة طائفية.. في هذه الأزمة بالفعل جانب طائفي له أسبابه التي تأخرنا كثيراً في علاجها، مثلما تأخرنا في علاج مشكلة مياه النيل، مع تماثل في أهمية المشكلتين: واحدة تتعلق بحياة البلد، والثانية تتعلق بسلامته، وكلتا المشكلتين دخلت مرحلة التعقيد، ولا أقول الاستعصاء، بسبب عدم الفهم، أو بسبب قلة العزم».
.. هكذا كتب الأستاذ «محمد حسنين هيكل» في «الأهرام» (١٠ مايو/ أيار ٢٠١١) على صفحته الأولى تحت عنوان: «عن الأزمة الطائفية.. وغيرها»، محذراً بكلمات مختصرة من أبعاد الفتنة وعجز الإدارة الانتقالية.
ثم وجد نفسه مرة أخرى يطل على الملف نفسه، في مراجعة المئتي يوم الأولى من الثورة، عندما بدأ الكلام يدور حول وضع دستور جديد.»كل ذلك ولا يسأل أحد عن شريك في الوطن منذ كانت بداية الوطن، ولا يمكن لرحلة المستقبل أن تتم من دونه وهو أقباط مصر، وهم بالعدد أكثر من عشرة ملايين، أين هم؟ ما هي حقوقهم في العيش المشترك؟ خصوصاً عندما يجيء الدور على وضع دستور، والدساتير كلها إجماع طوعي، وليس أغلبية وأقلية، لأنها كما قلت مواطنة عيش مشترك، لا يقبله طرف إلا بكامل حريته، وبرضاه واختياره».
ثم دخل إلى صلب موضوعه محذراً من ألفاظ تتردد من دون فهم لمعانيها، ومسؤولياتها «مثل أن يقول أحد لهم ولغيرهم: مصر دولة إسلامية، ومن لا يريدها كذلك عليه أن يرحل منها، ومثل أن يتحدث أحد عن خضوع أقلية لأغلبية، ومثل ما يقال عن السماحة، وعن عهد الذمة، ومثل هزل قبول الآخر، إلى غير ذلك مما تكرر والقول غير مسؤول، وأهم من ذلك غير مدرك».
وعندما جاء الدور على وضع الدستور بدا أن الإجماع تبدد، والمغالبة سادت، وقضية المواطنة خارج أي اهتمام حقيقي للذين يصوغون نصوصه.
هكذا تصاعدت النذر، فالدساتير لا تكتب بالغلبة إذا أريد لها أن تكتسب شرعيتها، ولا لعبة في يد من يمسكون بمقاليد السلطة.
كانت الفتنة، ولغتها، والتحريض عليها، من المقدمات الطويلة ل(٣٠) يونيو (2013).
ومن أفضل ما ينسب لدستور (2014) ما انطوى عليه من حقوق وحريات عامة غير مسبوقة من بينها حقوق المواطنة. «المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعي، أو الانتماء السياسي أو الجغرافي، أو لأي سبب آخر».
الدساتير ليست نصوصاً تكتب بقدر ما هي تعبير عن عقد اجتماعي ملزم بين الدولة ومواطنيها. وكأي عقد فإن شرعيته تكتسب بالتراضي لا الإكراه، وبقدر ما يحوزه من إجماع وطني.
في هذه المادة الدستورية نفسها، تأكيد على أن التمييز والحض على الكراهية جريمة يعاقب عليها القانون، وإلزام للدولة ب»اتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كل أشكال التمييز، وإنشاء مفوضية مستقلة يصدر بها قانون لهذا الغرض».
المفوضية أداة دستورية تؤسس لدولة القانون تمنع وتزجر، تحاسب وتعاقب أي تمييز ضد المواطنين أيا كان نوعه.
وعدم إنفاذ القانون يكاد يسمم المجال العام حتى بدت فكرة «يناير» في الدمج السياسي الطبيعي لا المصطنع للأقباط، أحلام راحت، وأمنيات تراجعت.
«حرية الاعتقاد مطلقة».. و»حرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة لأصحاب الأديان السماوية حق ينظمه القانون».
هذا نص دستوري آخر يؤكد قيم المواطنة لكنه يقصر بمفرده عن تلخيصها، أو الإلمام بجوانبها الأكثر أهمية.
القضية الحقيقية في البيئة العامة التي تتعرض للتسميم بالفتن المتكررة حتى نالت من رأس الكنيسة الوطنية المصرية البابا «تواضروس الثاني» ومؤسسات الدولة كلها.
عندما تقصر الدولة عن دمج الأقباط كمواطنين، أو إنفاذ القانون في أية فتنة تنشأ، فإن اللجوء إلى الكنيسة أمر محتم، وهذا تطور سلبي قد يقوض ما حلمت به «يناير» ذات يوم.