شعوب ضحية أكاذيب الشعبويين

05-01-2019
الحسين الزاوي

يؤكد عدد كبير من المتابعين والمحللين لمسارات السياسة الدولية أن المصادر الحقيقية للأحداث تشهد تحريفاً وتشويهاً غير مسبوق في تاريخ الممارسة السياسية عبر العالم، بل إن بعض السياسيين الشعبوين أصبحوا ينظرون إلى الحقيقة نظرة احتقار، ويعتقدون أن تصوراتهم وقناعاتهم يمكن أن تكون بديلاً فعالاً لكل ما تثبته تجليات الواقع، وليس لديهم بالتالي أي اعتراض على توظيف الأكاذيب، وعلى توجيه أفكار وقناعات الشعوب، وعلى استثمار رغباتهم وأحلامهم، وحتى تخوفاتهم، من أجل تحقيق مكاسب سياسية يدعون أنها أكثر فائدة للشعوب من كل الحقائق الملموسة التي يتحدث عنها الخبراء، وتدعمها الأرقام والإحصاءات والدراسات الأكاديمية المتخصصة.
وتكمن خطورة كل ما يحدث في أن طوفان الشعبوية ينتقل بشكل سريع في الغرب والشرق، على حد سواء، وتنتشر الأفكار الشعبوية كرائحة التبن التي تعانق ألسنة اللهب، في عالم يشهد تحولات اقتصادية، وثقافية، وتقنية، غير مسبوقة تسمح لزعماء مغامرين باستثمار كل منجزات الحضارة المعاصرة بغرض استمالة الرأي العام، وتوجيهه نحو أفكارهم، وأخبارهم المفبركة، ودفعه إلى اعتماد أكثر الخيارات راديكالية، وإلى إحداث تغييرات شاملة من دون الأخذ في الاعتبار كلفتها على السلم المجتمعي. وقد دفعت خطورة هذه الظاهرة العالمية إحدى أشهر المجلات الأدبية والفكرية الفرنسية إلى تخصيص عددها الصادر في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، لدارسة ظاهرة انتقال العالم من الأدب الرفيع إلى الأدب المخادع، مع انتشار الأدب السياسي الشعبوي الذي يعمل على الترويج للأكاذيب، وعلى قلب الحقائق.
وقد وضعت المجلة الأدبية الفرنسية في واجهة عددها العنوان التالي: «الكذابون.. كيف يوجِّه الشعبويون الأفكار والرأي العام». وتعمّدت من خلال هذه الصياغة إثارة القارئ، وأشارت إلى مجموعة كبيرة من رموز وزعماء الشعبوية في العالم، من بينهم ترامب في أمريكا، ونتنياهو في «إسرائيل»، وبوريس جونسون في بريطانيا، وماتيو سالفيني في إيطاليا، ومارين لوبان في فرنسا، وجايير بولسونارو في البرازيل، وفلاديمير بوتين في روسيا، ورجب طيب أردوغان في تركيا.
ويتصدر قائمة هذه الشخصيات المثيرة للجدل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي أطلق منذ توليه مقاليد السلطة في البيت الأبيض، عدداً كبيراً من الوعود والتصريحات المضللة على المستويين الداخلي والخارجي، وأكدت الصحف الأمريكية أن معدل الأكاذيب التي يطلقها الرئيس الأمريكي تضاعفت بشكل يومي، وبخاصة قبل انتخابات التجديد النصفي التي شهدتها الولايات المتحدة في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وأعلنت» واشنطن بوست» أن أقواله الكاذبة وصلت بتاريخ 20 ديسمبر/ كانون الأول إلى 7546 قولاً، ومن غير المستبعد أن تصل هذه الأقوال إلى مستويات قياسية مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة.
ويقف أيضاً رئيس الوزراء «الإسرائيلي» والصديق الوفي لترامب، في الصفوف الأمامية لجوقة الشعبويين، بالرغم من قلة ظهوره الإعلامي قياساً بالرئيس الأمريكي، وتوشك أكاذيبه وممارساته غير الأخلاقية أن تقوده إلى أروقة العدالة بتهم الفساد التي تلاحقه منذ شهور، ويحاول أن يلتف عليها في كل مرة من خلال القيام بالتصعيد العسكري على الجبهتين الفلسطينية والسورية، والإصرار أيضاً على لعب دور الضحية.
أما في فرنسا، فإن أكاذيب مارين لوبان خلال انتخابات الرئاسة في سنة 2017 أثرت بشكل واضح في حظوظها في الفوز بمنصب الرئاسة، وقد قامت مؤخراً بمحاولة استثمار أزمة «السترات الصفراء» للترويج لأطروحاتها بشكل مفضوح؛ كما استند الشعبويون في بريطانيا إلى الأكاذيب من أجل الفوز باقتراع «البركسيت»، ويشير المحللون إلى أن بوريس جونسون قاد حملة تضليل واسعة من أجل التأثير فيالبريطانيين ودفعهم إلى التصويت على خيار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وبموازاة هذا الكذب «التكتيكي» المفضوح لمسؤولين دوليين كبار، هناك ما يمكن تسميته بالكذب «الاستراتيجي» القائم على بيع الأوهام للشعوب المعروفة باعتزازها القومي، الأمر الذي نلفيه بشكل واضح لدى شخصيات من مثل فلاديمير بوتين، ورجب طيب أردوغان، حيث يحاول بوتين إقناع الروس بأن بلادهم يمكنها أن تهزم الغرب، بينما يسعى أردوغان إلى استثمار إيمان الشعب التركي وشعوره بالاعتزاز القومي من أجل دفعه إلى القبول بتحويل نظام الحكم في البلاد إلى سلطة مستبدة بماركة شعبية.
وقد دفع هذا الوضع الدولي الاستثنائي نيكولاس دوميناخ إلى القول: إن أغلب المجتمعات أصبحت جافة وقاحلة إلى الحد الذي يجعل الأكاذيب الأكثر جنوناً تنتشر كانتشار النار في الهشيم، في زمن كثر فيه سماسرة البهتان والأوهام، وتحولت فيه النسبية السياسية إلى شكل من أشكال العدمية، وأغفلت نخبنا بالتالي ما قاله ألبير كامو: «تكمن الحرية بداية في الامتناع عن الكذب؛ فأينما ينتشر الكذب، يُعلن الطغيان عن نفسه ويصبح أبدياً».

hzaoui63@yahoo.fr