دولة التسامح

05-01-2019
د. ناجي صادق شراب

تحتفل كل الدول والشعوب بطريقتها الخاصة بالعام الجديد، إلا دولة الإمارات التي تحاول أن تتميز وتتفرد على غيرها بما تقدمه من مبادرات. لم تعد مبادراتها محلية، بل مبادراتها لها مردود ونتائج إيجابية تتجاوز جغرافيتها، بل تتجاوز حدود الزمن. والدلالة هنا بالمضمون والرسالة. فالتسامح ليس مجرد عام، ولا مجرد مناسبة أو شعار أو بيان سياسي، بل هو أعمق من ذلك، فالتسامح تراث وتاريخ وتقاليد وسلوك وفعل، وقيمة عليا تستمد أصولها من الدين والتقاليد العربية الأصيلة وتتوافق وكل الشرائع السماوية والإنسانية. هي ترجمة وتجسيد لفلسفة التسامح وللمواثيق الدولية.
والتسامح رؤية قيادة رشيدة ترى دور الدولة ليس فقط في امتلاك القوة الصلبة، بل تعززها بمنظومة من القيم على قمتها يأتي التسامح. فالتسامح لا حدود له. وكأننا هنا عندما نتحدث عن دور الدولة نتكلم عن دور عالم، ولعل هذا تصنيف جديد في تصنيف سلم الدول، فالدول قد تصنف بدول عظمى وكبرى وصغرى ودول قوية وأخرى ضعيفة. وهنا وفقاً لسلم التسامح ومعاييره العالمية تصنف دولة الإمارات بأنها دولة التسامح الأولى أو العظمى.
وهنا تحضرني مقولة تاريخية خالدة للشيخ زايد طيب الله ثراه: «لولا التسامح ما أصبح الصديق صديقاً، ولا الشقيق مع الشقيق.» هذه المقولة ترادف مقولة الإنسانية الشاملة أو المواطنة العالمية، وهذه هي كانت رسالة المغفور له الشيخ زايد في أن تصبح دولة الإمارات أنموذجاً لدولة الإنسانية الشاملة، وهذا ما هدف إليه صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات بقراره أن يكون العام الحالي عام التسامح، وبذلك تقدم دولة الإمارات النموذج الإنساني العالمي في التسامح، مبتدئة بنفسها، فعلى أرضها تعيش أكثر من مائتي جنسية، الكل يشعر أنه يعيش في بلده، وهذا لا يتحقق من فراغ إلا بالقوانين والتشريعات والمبادرات الإنسانية التي تنبذ العنف والكراهية والحقد والتمييز العنصري بين جنس وآخر. قانون التسامح العام هو الذي يحكم العلاقة بين هذه الجنسيات، وهذه رسالة وإنجاز ومهمة ليست بالسهلة، فتحتاج إلى المزيد من المبادرات والترجمة على أرض الواقع.
ومنذ نشأة دولة الإمارات جاء التأكيد على أهمية هذا المبدأ بالنص عليه دستورياً في المواد 25 و32 و40 والتي أكدت المساواة والاحترام وعدم التمييز. والنص دستورياً له دلالات عميقة، فالأساس هنا لسمو الدستور، وهو ما يعني إلتزام كل القوانين بهذه المواد. ومنذ ذلك الوقت وسياسة الدولة تتبنى نفس النهج لنصل لعام 2019 عام التسامح. وقد تم التأسيس لهذه المبادرة بسلسلة من الخطوات والمبادرات، ومنها جائزة الشيخ راشد للتسامح، والبرنامج الوطني للتسامح، وقانون مكافحة التمييز والكراهية، والتأسيس للمعهد الدولي للتسامح، والمساهمة في المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة ومقره أبو ظبي، وتشكيل اللجنة الوطنية العليا للتسامح برئاسة الشيخ عبد الله بن زايد وزير الخارجية، ولهذا دلالة سياسية عميقة، منها أن التسامح أحد أهم ملامح وثوابت السياسة الخارجية للدولة، وهذا يترجم في العديد من المبادرات الإنسانية ومبادرات الحوار بين الأديان والالتزام بكل الاتفاقات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة والتي تعنى بقضية التسامح، وتتجسد أيضاً في محاربة كل أشكال الإرهاب والعنف ونبذ الكراهية.
ولا يترجم التسامح فقط في سياسة الدولة، بل أيضا كسلوك فردي يتم ترسيخه من خلال مناهج التعليم والتنشئة والتربية، وفي الخطاب الإعلامي والسياسي. التسامح سلوك سياسي عام، أي سلوك دولة وسلوك فرد.
والغاية الكبرى للتسامح أن تتحول دولة الإمارات إلى مركز عالمي للتسامح، وتصبح أبوظبي عاصمة له. وتأتي أهمية هذا الإعلان أنه يأتي رداً على تنامي الأفكار والتيارات التكفيرية والمتطرفة والعنصرية الرافضة لقيم الديمقراطية والحرية. لكل هذه الأسباب جاءت دولة الإمارات على رأس سلم معايير العالم في التسامح. ولعل زيارة البابا القادمة للدولة تجسد رسالة دولة الإمارات في الانفتاح والتسامح والسلام. التسامح في أعلى درجاته وصوره دعوة وعودة للإنسانية الشاملة أو المواطنة العالمية، وهذا ما يجعل بحق مبادرة الإمارات في التسامح دعوة لكل الدول والشعوب لتحتذي بها. فبالتسامح تكبر الدولة ويكبر دورها، وتتحول إلى ملتقى لكل شعوب العالم.

drnagishurrab@gmail.com