أكبر من أبيه

17-12-2018
يوسف أبولوز

على خطى أبيه، يمشي الشاعر والروائي اللبناني عبده وازن ويمشي ولا يجد بيروت، ولعلّها بيروت أبيه الذي توفي شاباً.
يسترجع بيروت التي عرفها أبوه ويقارن بينها وبين بيروت التي يعرفها هو: «كان أبي وأمي يلتقطان الصور التذكارية تحت تمثال الشهداء في ساحة البرج، أحببت كثيراً هذه الصور التي تمثل بيروت الجميلة أو الحقيقية، أما بيروت التي أعرفها وعرفتها فلم تكن سوى نسخة مشوّهة عن بيروت الأولى»، وفق حوار أجرته معه الشاعرة والصحفية اللبنانية ليندا نصّار.
لكن ذروة ما في هذا الحوار هو ما قاله عبده وازن حول روايته «غرفة أبي»: «إنها رواية «سيرة ذاتية» انطلقت من فكرة أنني أصبحت أكبر من أبي الذي توفي شاباً، وهنا كان التحدّي: أن أكتب عن أب أجهله تقريباً، وقد أصبحت أكبر منه».

ولكنه في مكان آخر من الحوار يخبرنا أنه يكتب كتاباً يضم سيرته الذاتية من خلال سيرة أمّه التي ستكون بالطبع أكبر منه.
عجيبة حياة الكاتب عندما يتأملها بهذا الوعي الشعري، وهو وعي وجودي في الوقت نفسه يكشف عن العذابات المضمرة في قلب الكاتب عندما يكون الموت وجهاً آخر للزمن: زمن الأب، وزمن الابن الذي أصبح أكبر من أبيه بعد الموت.
في أكثر من حوار له طابع السيرة الذاتية يكشف العشرات من الكتّاب عن ذلك الحدث المؤلم الذي يفاجئ طفولاتهم، فقد يكون شاعر ما أو روائي أو رسّام أو موسيقي في السادسة من عمره أو دون ذلك، أو قد يكون في العاشرة أو دون الخامسة عشرة. وعند هذه السن الطفولية التي يكون فيها الإنسان متعلّقاً بأبيه، يموت الأب، ويكبر الابن وتكبر معه حسرته وشعوره الموحش باليتم والفقدان، والأمر نفسه يتعلّق بالأم التي يكون فقدانها في تلك الحالات أقسى من فقدان الأب.
مثل هذه الفقدانات التي تجعل الإنسان أكبر من أمّه ومن أبيه من خلال الغياب، لأنه يستمر في الحياة، تحوّل الكائن المضروب بالحزن إلى شاعر أو تحوّله إلى إنسان فيه روح شاعر. إنسان بالغ الشفافية، مشدود إلى تلك الصور التي لا تغيب عن باله مطلقاً: صورة أب مُسجّى وحوله بكاء ودموع. صورة أب كان قبل قليل يملأ البيت بالضحك والدّمى. صورة أم تملأ الحياة بالضوء والعطر. أم هي باب البيت وسقفه ونوافذه وشرفاته.
هذه الكتابة، أي السيرة الذاتية للكاتب من خلال سيرة أبيه أو أمّه أو أخته أو عمّه أو أخيه، تتطلب أكبر قدر من الرهافة والقدرة على تذكر تفاصيل الماضي واستحضار التفاصيل مشحونةً بالحياة والحضور، ولكن من أين لطفل أن يفعل كل ذلك؟ يفعله إذا كان يعرف مرارة أن يكون أكبر من أمّه أو أبيه.

yabolouz@gmail.com