«السترات الصفراء»..حراك فاجأ الجميع

17-12-2018
محمود الريماوي

استرعى حراك «السترات الصفراء» في فرنسا وما زال اهتمام العالم، باعتباره حدثاً يمزج الاحتجاجات بالعنف، ويخرج عن كل إطار نقابي أو حزبي كما جرت العادة. والواقع أن الجميع اعتادوا رؤية مسيرات منظمة في ذلك البلد، يقوم أفراد منها بضبطها لمنع انفلاتها، أو اندساس آخرين في صفوفها لأغراض قد لا تكون بريئة، مع قيام رجال الأمن بواجبهم في حمايتها، لكن الاحتجاجات خرجت هذه المرة كانفجار شعبي غير ممهد له (كوحش على حد وصف وزير الداخلية كريستوف كاتسنير)، وبدون هوية نقابية أو حزبية، مع ميل إلى العنف لم يجد له مثيلاً، إلا في «انتفاضة الضواحي» عام 2005 في عهد الرئيس الأسبق جاك شيراك، والتي أدت إلى إحراق نحو 10 آلاف سيارة، وتقويض عشرات المباني الحكومية، على أن ذلك الحدث على كارثيته بدا على درجة من الوضوح؛ إذ انطلق من ضواح مهمشة، وجاء بعد واقعة تنكيل الشرطة بأحد الشبان المهاجرين.
أحداث «السترات الصفراء» كانت أقل عنفاً، بما لا يقاس، والحق أن العنف على سوئه وواجب إدانته، اشتعل على هامش الاحتجاجات، وليس في متنها أو قلبها، غير أن الغموض الذي اكتنف القوى المحركة لهذه الاحتجاجات، أشاع جواً من البلبلة وأربك السلطات والشارع الحزبي والسياسي عموماً، فضلاً عن وسائل الإعلام.
كما استرعى الانتباه أن نحو سبعين في المئة على الأقل من الفرنسيين أيدوا أو تفهموا هذه الموجة الاحتجاجية، وهي نسبة عالية لا شك بل إنها تحمل قدراً من المفاجأة، فهل أن الفرنسيين في غالبيتهم يميلون إلى المعارضة ولو كانت غير حزبية؟.
استقراء المجريات يدل على أن الواقع الحزبي الذي طالما أطر الفرنسيين، أخذ يستنفذ أغراضه، وكأن الهرم قد دب في هذه الأجسام السياسية سواء انتمت إلى اليمين أو اليسار أو الوسط، وهو ما يفسر أن الرئيس مانويل ماكرون نفسه، استطاع من خلال حزب ناشئ هزيمة أحزاب تاريخية مثل الاشتراكيين والجمهوريين والديجوليين والشيوعيين، وكأنما السحر ارتد على الساحر.
فمن أسهموا في تصعيد الرئيس الشاب الذي لم يكن يحظى قبل بضع سنوات بنجومية سياسية تُذكر، هؤلاء إما شاركوا في الاحتجاجات أو في الاستفتاءات التي أظهرت معارضة واسعة للحكم والحكومة. ولا يعود الأمر بالضرورة إلى تحول هائل في مزاج الرأي العام، لكنه يعود إلى أمرين أساسيين؛ الأمر الأول أن الناس لا تساوم على لقمة خبزها وعلى مستوى معيشتها. نعم إنه الاقتصاد. وحين تستعر الحمى الاستهلاكية لدى الفئات والشرائح الميسورة، وحين تزدهر ميديا الترويج للاستهلاك على نطاق واسع، وتُداهم الناس بمن فيهم الطبقة الوسطى والفقراء والمتعطلين في كل وقت وظرف، فمن الطبيعي أن يجري التحسس حينئذ من موجات الغلاء ومن ضيق ذات اليد، خاصة بعدما لاح أمل ما للناس في مايو 2017 مع صعود رئيس شاب إلى الإليزيه من خارج الطبقة السياسية المعهودة، غير أن هذا الأمل وُوجه بامتحان قاسٍ، ولم تكن النتائج مبشرة ولا بحجم الأمل حتى الآن.
ومن المفارقات أن تندلع احتجاجات ساخطة على الوضع المعيشي في بلد صناعي ومتقدم، ويندرج في مجموعات الدول المتقدمة كمجموعة السبع، والثماني والعشرين، الكبار، وهو امتحان جديد للرأسمالية.
والأمر الثاني أن «تياراً» عريضاً بات ينشأ في قلب المدن والمجتمعات كما في الهوامش وعلى الأطراف، وهو ما يمكن تسميته بتيار منصات التواصل الإلكترونية؛ حيث يتاح للجميع جنباً إلى جنب مع السياسيين والبرلمانيين والحزبيين والنقابيين، التعبير عن آرائهم، بالأسلوب الذي يشاؤون، بما في ذلك الدعوات إلى التعبئة والتحشيد الشعبي!.
وقد انطلقت شرارة هذه التحشيدات من تغريدة لسيدة اشتكت ارتفاع أسعار الوقود، فيما كانت تستعد لملء خزان وقود سيارتها. ولعلها تغريدة عفوية لم يكن يُقصد بها إعلان النفير، وإنما التعبير الآني عن المشاعر، وكما يحدث مع كل مستهلك يُفاجأ بارتفاع سعر سلعة ما عن السعر الذي اعتاده.
هذا النمط من الإعلام تصعب السيطرة عليه في بلد يعتبر حرية التعبير إحدى أهم إنجازاته ومفاخره، وهو ما يضع النقابيين والحزبيين وسائر المعنيين بالشأن العام أمام ما لا يتوقعونه، وما يربك حساباتهم وأجنداتهم؛ بينما جاءت القرارات بالتجاوب مع بعض مطالب المحتجين لتبرهن على أن الشارع يستحق سماع صوته وإنصافه.
mdrimawi@yahoo.com