أوروبا بين الرأسمالية والرعاية

17-12-2018
حسام ميرو

أعادت أحداث فرنسا إلى الواجهة عدداً من القضايا التي كانت قد اختفت من التداول، وفي مقدمتها سؤال المواءمة بين الرأسمالية وبين دولة الرعاية، فالأولى تتناقض، من حيث المبدأ، مع تدخل الدولة، وتسعى إلى الحدّ من عمل الحكومات، لمصلحة السوق، أو ما يسمى بلغة الاقتصاد الديناميات الذاتية للسوق، حيث قوانين العرض والطلب تقوم بنفسها في عملية تنظيم السوق، وفي ترتيب البنى الاجتماعية، وتحدد مصالح الفاعلين.
من جانبها، تسعى دولة الرعاية إلى الحفاظ على الحدود الدنيا للمعيشة الإنسانية لمواطنيها، بما يحقق متطلباتهم، ويحفظ كرامتهم، في ظل نظم سياسية ديمقراطية، تكون مهمة الحكومات فيها، أو في الجانب الاقتصادي الاجتماعي منها، المحافظة على الحقوق الأساسية للمواطنين، من تعليم وصحة وعمل وخدمات، كما أن التنافس السياسي بين الأحزاب في دولة الرعاية يقوم على برامج لا تتناقض مع مصالح مواطنيها، بل تسعى إلى تدعيم برامج الرعاية نفسها، وتطويرها، لتكون أكثر تكيّفاً مع تطور الاحتياجات المعيشية والإنسانية.
تهتم برامج الرعاية في الدول الغربية بالفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع، من مثل العاطلين عن العمل، والمتقاعدين، والأطفال، والأمهات، وأصحاب الدخل المحدود، ومن ضمن النتائج المتوخاة من برامج الرعاية تحقيق السلم الاجتماعي، ومنع تفاقم الأزمات الاجتماعية، وتحقيق مستوى من الرفاه، ومنذ عقود، مضت الدول الغربية، إضافة إلى الدول الاسكندنافية، نحو تبني نظام الرعاية الاجتماعية، وقد أسهمت فوائض الإنتاج الصناعي، وحيازة تلك الدول نصيباً مهماً في سوق العمل الدولي، في تأمين الأموال الضرورية لديمومة أنظمة الرعاية، إضافة إلى قطوعات الضرائب على الشركات والأفراد.
لقد حدثت، منذ عقدين على الأقل، تغيّرات كبيرة، في بنية الاقتصاد العالمي، فقد فرضت توجهات الموجة الثالثة للعولمة، حالة تنافسية جديدة في الاقتصاد العالمي، خصوصاً في مجال الاستثمار في أنظمة المعلوماتية والبرمجيات؛ لما تدرّه من عوائد ضخمة، وسيولة أوسع في الانتشار، وقد احتلت الصناعات الجديدة مكانة مهمّة في الأسواق، على حساب الصناعات التكنولوجية التقليدية، مع نزوح الكثير من الشركات نحو دول آسيوية، لإقامة معامل الإنتاج الصناعي التقليدي؛ نظراً لانخفاض تكاليف الأيدي العاملة، والتسهيلات الضريبية، التي تمنحها الدول الآسيوية للشركات الأمريكية والأوروبية.
وفي إطار تنامي العولمة، برزت رؤى وقيم وتحالفات جديدة، بين الشركات الرأسمالية، وحدث تغيّر جوهري في عملية بناء السياسات، فقد كانت الدولة (الدول الأوربية الكبرى خصوصاً)، بما تمتلكه من مكانة عالمية، وقوة عسكرية، وحضور سياسي فاعل على المسرح الدولي، توفر فرصاً كبيرة لشركاتها الوطنية، لكن موجة العولمة أحدثت انقلاباً في الأدوار، فقد امتلكت الشركات العابرة للجنسيات والقارات نفوذاً هائلاً، وأصبح بإمكانها دفع التوجهات السياسية للدول، بما يخدم مصالحها، بشكل شبه حصري، بعيداً عن حسابات التوازن الاجتماعي.
تنظر الشركات المعولمة، إضافة إلى ممثلي العولمة المالية، من بنوك وشركات مضاربة وشركات التمويل الكبرى، إلى أنظمة الرعاية الاجتماعية بوصفها معرقلة لنمو أعمالها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، تجد الشركات المعولمة أن النظام التعليمي المجاني يمثل عائقاً أمام خصخصة هذا المجال، الذي يعدّ سوقاً واسعاً للاستثمار، كما أنها ترفض تحديد حدّ أدنى للرواتب، لتناقضه مع المبدأ الرأسمالي القائم على العرض والطلب، وتناقضه مع الاتفاق الحر بين أرباب العمل والعمال، كما أن نظام الرعاية، كما تراه الشركات المعولمة، يدفع أعداداً كبيرة من المواطنين لتفضيل العيش على راتب التعطّل عن العمل، الذي تمنحه لهم الدولة، على العمل، مقابل أجور، قد لا تزيد كثيراً عن الرواتب التي يمكن أن يتقاضوها، وهم على رأس عملهم.
إن الأحداث التي شهدتها فرنسا، تكشف عن تناقض عميق بين مصالح أرباب العمل، وخصوصاً الشركات العولمية، وبين الفئات الاجتماعية الأكثر تضرراً، وعن إمكانية محدودة لتدخل الدولة، خصوصاً أن أي تدخل من جانبها، لمصلحة أي طرف من طرفي المعادلة، يعدّ مكلفاً، على المديين المنظور والمتوسط، فتجنب الوقوف إلى جانب الحركة الاجتماعية الاحتجاجية قد يكون مكلفاً على المستويين السياسي والاقتصادي، كما أن تلبية الدولة لمطالب تلك الفئات، يعني إعادة هيكلة النظام الضريبي نفسه، وهو ما يعني تهديد مصالح الشركات الكبرى، ورؤوس الأموال النافذة، وتهديد الاستثمار.
المشكلة التي تبدو اليوم فرنسية، هي مشكلة أوروبية بامتياز، قد تتفاوت من بلد إلى آخر، لكن التغوّل الرأسمالي، وسأم الفئات الاجتماعية المتضررة من ديمومة أوضاعها، قد يدفعان نحو مواجهات جديدة، في غير بلد من بلدان القارة العجوز.
husammiro@gmail.com