الرحيل الأمريكي المؤجل عن المنطقة

17-12-2018
عاصم عبد الخالق

في حواره الأخير مع صحيفة واشنطن بوست بدا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب واضحاً ومحدداً وصادقاً، ربما على غير العادة، في كل كلمة قالها عن الشرق الأوسط. كان يقصد ما قال تماماً عن الالتزام بحماية «إسرائيل» كسبب وحيد لبقاء القوات الأمريكية في المنطقة. لم ينس أن يعلن أن النفط لم يعد سبب الوجود العسكري بعد أن تضاءلت أهميته، وبعد أن أصبح الإنتاج الأمريكي منه أكبر من أي وقت مضى.. وهذا يعني، والكلام له، «أننا قد نصل فجأة إلى نقطة لن نحتاج فيها إلى البقاء هناك».
لا تشكل تصريحات ترامب عن تضاؤل أهمية الشرق الأوسط بنفطه مفاجأة من أي نوع للمتابعين للسياسة الأمريكية. وهو ليس المسؤول الوحيد الذي يتحدث عن الخروج من المنطقة. وليس أول رئيس يدلي بمثل هذا الكلام أو يتخذ خطوات على هذا الطريق.
الرئيس السابق باراك أوباما كان يتبنى نفس الموقف. وهو صاحب التوجه الشهير بإنهاء الحروب الخارجية التي ورط أمريكا فيها الرئيسان السابقان بوش الأب والابن.
الشرق الأوسط تتراجع أهميته دون شك للولايات المتحدة بفعل متغيرات عدة في المنطقة وخارجها وبفعل واقع مختلف فرضته تحولات مهمة في طبيعة المصالح والتهديدات والأهداف الأمريكية، ورؤية واشنطن أسلوب تحقيق مصالحها وتقديرها حجم ومصدر التهديدات وسبل مواجهتها. ويعني سير ترامب الجمهوري على نفس طريق الخروج الذي بدأه أوباما الديمقراطي أن الأمر يتجاوز التوجهات الشخصية ليتحول تدريجياً إلى سياسة أمريكية مستقرة سيتبناها بالضرورة الرئيس المقبل.
غير أن الرحيل الذي يتحدثون عنه لا يعني الطلاق البائن بين واشنطن وشركائها في الشرق الأوسط. ولا يعني أنها ستترك المنطقة نهباً للطموحات الروسية- الصينية. الوجود الأمريكي سيستمر بالطبع ولكنهم يريدون تقليصه وترشيده. كما أن الدعوة إلى تجنب التورط في حروب جديدة لا تعني بالضرورة عدم نشوب حروب تشنها واشنطن أو تكون طرفاً مباشراً أو غير مباشر فيها.
هناك آليات أخرى جربتها الإدارات الأمريكية يمكن أن تشكل بدائل مناسبة. على سبيل المثال الاعتماد على الوكلاء المحليين سواء مجموعات تتولى واشنطن تدريبها وتسليحها على غرار ما تفعله مع الأكراد في سوريا والعراق، أو من خلال قوات نظامية حليفة كما هو الحال مع الجيش العراقي. ستكتفي واشنطن بتوفير الغطاء الجوي والمشاركة في الغارات والهجمات الصاروخية، والدعم الاستخباري واللوجستي وربما بعض العمليات الخاصة على أن تترك للحلفاء المحليين مهمة الاشتباكات الأرضية بما تخلفه من خسائر بشرية.
حتى الآن لا يوجد قرار معلن بأن هذا هو التوجه الأمريكي الجديد، ولكن كل المؤشرات بما فيها تصريحات ترامب توضح أن الولايات المتحدة في طريقها لهذه النهاية. وكثيرون من النخبة الحاكمة والمثقفة يرون أن الوقت الحالي هو الأنسب لاتخاذ القرار. وتحت أيدينا دراسة مهمة عن الموضوع انتهت إلى تلك النتيجة، ليس لأن هذا هو الحل الأمثل ولكن لأنه الأقل ضرراً.
توضح الدراسة أن القول بتراجع أهمية الشرق الأوسط لا يعني بالضرورة أن تقليص التدخل الأمريكي فيه سيكون بديلاً جيداً ومفيداً سواء لأمريكا أو المنطقة. ولكن مرة أخرى الاستمرار بمستوى الوجود الحالي لم يعد ممكناً ولا مقبولاً، كما أن تكلفته أصبحت لا تطاق.
باختصار، الآن هو وقت الانصراف كما تقول الدراسة التي أعدتها اثنتان من أهم خبراء الشرق الأوسط هما مارا كارلين أستاذة الدراسات الدولية في جامعة جون هوبكنز، ووكيلة مساعد وزير الدفاع للإستراتيجية بين عامي 2015 و2016، وتامارا كوفمان ويتس كبيرة الباحثين في برنامج السياسة الخارجية بمعهد بروكنجز الشهير وعملت نائبة لمساعد وزير الخارجية للشرق الأوسط من 2009 إلى 2012.
تجيب الدراسة عن أسئلة مهمة بشأن أسباب تراجع أهمية المنطقة بالنسبة لأمريكا ومستقبل الارتباط معها. كما ترسم خريطة طريق للإستراتيجية الأمريكية الجديدة في المنطقة، ونقاط أخرى مهمة سنعود إليها بشيء من التفصيل في الأسابيع المقبلة.