صور الحيرة الخلاّقة

16-12-2018
عبداللطيف الزبيدي

إذا كان المستقبل للعلوم والتقانات، فماذا يخبّئ الغد البعيد للفنون والمعارف؟ يحتاج الدماغ إلى شيء من السرحان الفكري، التيه الفلسفي والشطحات العرفانية. العقود الأخيرة شهدت قفزات علمية لم يكن أغرب الخيال العلميّ يتصورها، وتراجعات انحدارية في الفنون لا قِبل لأحد بتخيّلها.
لا يمكن الشك في نموّ القدرات الإبداعية لدى الإنسان. تفاوت الحقب صعوداً ونزولاً طبيعي معهود. لكن منابع الفكر والفلسفة والعلوم والفنون واحدة، وإن لاحت شديدة التباين. ظاهريّاً تبدو الحيرة بعيدة نجوميّاً من تلك الميادين، غير أنها تصبح أحياناً محرّكاً جبّاراً للفيلسوف والعالم والفنان، فيسخّر لها كل واحد طاقته وطريقة أدائه في مجاله.
خذ مثلاً: المادّة المنظورة في الكون لا تشكّل إلاّ 5% من مجموع كيانه، وهذه غير كافية لإيجاد الجاذبية التي تحافظ على بقاء المجرّات تدور متماسكة. كذلك تماسك خلايانا. أعلم العلماء لا يعلمون ما هي ماهية البقية 95%. بعض كبارهم يدعو، إذا طال أمد اللغز، إلى التفكير في فيزياء مختلفة عسى أن يُحلّ الإشكال. الأطباء وعلماء الأحياء والعلوم العصبية، عاكفون على بحوثهم في الأنسجة والخلايا والحمض النووي والخلايا العصبية، ولهم مشكلات وحلول، لكنهم يعلمون أيضاً أن 95% من مادة الجسم وطاقته (وهو ابن الكون) مجهولة الهوية. الأعجوبة: هذه القضية نفسها، تجعل الفيزيائي غارقاً في معادلات الرياضيات والفيزياء فلا يهدأ له بال، وهكذا يتقدم العلم. الفيلسوف يحيّره اللغز الكبير، ولكنه يدرك أن الكون بُني بعلم، فلا بدّ من أن العلم طريق المعرفة إلى الحقيقة، فيطلق العنان لفلسفة العلوم المجنحة بالخيال العلميّ. الشاعر والفنان التشكيلي والموسيقي، تدفعهم مجاهيل محيّرات الكون اللاّنهائيّة التجلّي، إلى إبداع الجمال من حروف الحيرة وألوانها وتناغماتها. الصوفي يحلّق بتجليات الروح في فضاءات لا يدركها العقل؛ لأنه لا يرى إلاّ المحسوسات والملموسات، فلا ترى الروح نفسها في الكون، بل تبصر الكون في ذاتها.
لزوم ما يلزم: النتيجة الحيروية: المحيّر في الحيرة هو أنها أبدعت ألف يقين عبر التاريخ.

abuzzabaed@gmail.com