حركة «السترات الصفراء» من هي؟

15-12-2018
د.غسان العزي

من الصعوبة بمكان تقديم توصيف دقيق محدد لحركة «السترات الصفر» التي تعصف بفرنسا هذه الأيام، والتي حولت جادة الشانزليزيه الشهيرة إلى ساحة قتال عنيف بين الشرطة والمتظاهرين.
هذا الحراك الذي فاجأ الجميع بعنفه وتصميمه، لا يشبه ما عرفته فرنسا إلى اليوم من انتفاضات واضطرابات. يمكن إلى حد ما مقارنته بالاضطرابات التي شهدتها فرنسا في العقد الأخير من القرن المنصرم، احتجاجاً على زيادة أسعار المحروقات والتي قادتها نقابات قطاع النقل، أو حركة «القبعات الحمر» التي كانت عبارة عن انتفاضة لمزارعي منطقة بريتانيا غربي فرنسا، لكن «السترات الصفراء» لا تمثل قطاعاً اقتصادياً محدداً، ولا منطقة معينة، ولا تقودها نقابة أو حزب أو جماعة.. إنها عبارة عن تجمع لمعارضين من كل المناطق والمشارب، يتميز بأفقيته بمعنى غياب القادة أو المنظمين أو التراتبية التنظيمية، فلا بنية له ولا تنظيم.
وقد ولدت من رحم وسائط الاتصال الاجتماعي، وهي تستمر وتتسع بفضل هذه الوسائط والتغطية الإعلامية الواسعة لها. ففي مايو/أيار الماضي، وضعت شابة فرنسية عريضة للتوقيع على موقع «شانج.كوم»، تطالب بتخفيض سعر البنزين من دون أن تحظى بتجاوب واسع؛ إذ بلغ عدد الموقعين على العريضة الإلكترونية حوالي خمسمئة فقط في الأشهر الأربعة الأولى.
ولكن فجأة خلال الشهر المنصرم، أخذت هذه العريضة في الانتشار على وسائط التواصل، مع نقاش واسع حول مستوى معيشة الطبقات الفقيرة، وسياسة الحكومة اللامبالية حيال هذه الطبقات، وماكرون «رئيس الأغنياء».. ليصل عدد الموقعين في نهاية الشهر المذكور إلى 775 ألفاً، وعدد المشاركين في هذا النقاش إلى أكثر من خمسة ملايين مواطن.
هناك من شبّه هذا الحراك بالانتفاضات الشعبية التي كانت تحصل في القرن التاسع عشر في الأرياف ضد طبقة النبلاء، المتهمة بإدارة ظهرها للشعب ولامبالاتها حيال معاناته؛ لذلك كان المتظاهرون المدعومون أحياناً من بعض البورجوازيين، يهاجمون قصور النبلاء، وكان العنف الشديد يميز المواجهات بين المنتفضين وأصحاب الامتيازات. لكن في الحقيقة ليس ثمة ما يمكن مقارنته بين القرنين 19 و21، لا من حيث طبيعة التفاوت الطبقي أو العلاقات السياسية، أو انتشار المعلومة ووسائل الاتصال والإعلام.
هناك أيضاً من يرى أن الحراك الحالي، حركة مايو/أيار 1968 جديدة. لكن عند التمعن في المقارنة، نجد أن الحركة المذكورة التي شكلت منعطفاً أساسياً في تاريخ فرنسا المعاصر، قامت ضد الجنرال ديجول فأطاحت به، في حين أن الحراك الحالي يطالب بتعيين جنرال في ماتينيون (رئاسة الوزراء) هو بيار دوفيلييه قائد الأركان السابق الذي استقال في صيف العام المنصرم، بسبب خلافه مع الرئيس ماكرون. ويقول النائب الأوروبي دانيال كوهن بنديكت، الذي كان أحد قادة انتفاضة العام 1968، في تعليقه على ما يجري اليوم: «إننا لسنا في حقبة ثورية. صحيح أن هناك أزمة اجتماعية حقيقية، ومشكلة شرخ اجتماعي وتفاوت طبقي، لكننا أيضاً أمام نزعة تسلطية بل توتاليتارية للسترات الصفر، بسبب فشل الديمقراطية، فهؤلاء يعتدون على المتظاهرين الذين يريدون فتح حوار سلمي مع الحكومة، ويهددوهم بالموت وهذا ما لم يحصل البتة في العام 1968».
لقد كانت الضريبة على أسعار المحروقات هي الشرارة التي أشعلت «الحراك الأصفر»، والذي راح ينتشر داخل فرنسا وخارجها (بروكسل وبعض المدن الأوروبية الأخرى)، لكن هذا الانفجار ليس سوى تعبير عن تراكم لمشاعر الحرمان والاضطهاد والإهمال، من قبل طبقة تشعر بأن قدراتها الشرائية في تدهور مستمر، في وقت يُلغي فيه ماكرون الضريبة التصاعدية السابقة على الثروات، ويقرر تمويل برنامجه الإصلاحي من جيوب الفقراء.
أكثر من ذلك، فقد اشتهر الرجل بإطلاقه لكثير من عبارات الذم والتحقير إزاء العاطلين عن العمل «الكسالى» والفرنسيين «الذين يذهبون كثيراً للسباحة»، أو أولئك «الذين لا قيمة لهم ونصادفهم كثيراً في محطات القطار».. وفي كل يوم جديد يفقد ماكرون شيئاً من شعبيته.
وعندما خضع ماكرون للضغوط ووافق على تعليق الإجراءات الضريبية لستة أشهر، في انتظار نتائج الحوار الوطني العام الذي دعا إليه، وُوجِه برفض المحتجين الذين اعتبروا هذا القرار مجرد ذر للرماد في العيون.
فبعض هؤلاء لم يعد يكتفي بالمطالب الاقتصادية؛ بل بات يريد تغيير النظام واستقالة الرئيس، وحل البرلمان، وصياغة دستور جديد، وما شابه. لقد بدأت حركة «السترات الصفر» بالانقسام على نفسها، بين نزعتين معتدلة ومتطرفة، وهي وإن بقيت عصية على الوقوع في قبضة اليمين أو اليسار الشعبويين؛ إلا أن مشكلتها تبقى في تلونها وتبعثرها وأفقيتها، وافتقادها لبنية تنظيمية واضحة، ولمن يمثلها في حوار حقيقي مع السلطة بات ضرورياً وملحاً.