من لبنان إلى العراق: نماذج بائسة

15-12-2018
محمد نورالدين

أجريت الانتخابات النيابية في لبنان في شهر مايو/أيار الماضي، أي منذ حوالي سبعة أشهر. وهي كانت قد أجريت آخر مرة في العام 2009.
تجري الانتخابات النيابية عادة كل أربع سنوات. وهي كانت توقفت من العام 1974 حتى العام 1992 أي 18 سنة كاملة بسبب الحرب الأهلية.
ورغم أنه لم تكن هناك حرب أهلية، لكن المسؤولين اللبنانيين تذرعوا بالحرب السورية لكي يمددوا لبرلمان 2009 في العام 2013 ليبقى حتى العام 2018 أي خمس سنوت كاملة وما يعادل ولاية كاملة ونيف.
وبعد مخاض عسير جداً انبثق قانون انتخابي جديد أساسه النسبية بتوزيعات طائفية أجريت على أساسه انتخابات العام 2018.
بعد سبعة أشهر على إجراء الانتخابات لا يزال لبنان من دون حكومة. وليس هذا بغريب على كل الدول بما فيها التي تعتبر متقدمة ومنها بلجيكا التي بقيت بدون حكومة لأكثر من سنتين. لكن حتى لو دققنا أكثر فإن المثال البلجيكي ليس بعيداً عن الجذور الفعلية للأزمة اللبنانية.
صرّح مرة مسؤول عراقي رفيع المستوى بأن العراقيين بعد الغزو الأمريكي لبلادهم والبحث عن صيغة سياسية للنظام الجديد نظروا إلى المحيط ووجدوا النموذج اللبناني أقرب إلى واقع العراق فاعتمدوه. وهكذا وزعوا المناصب الرئاسية والوزارية والنيابية وفقاً للمعايير الطائفية أو العرقية. فكانت رئاسة الجمهورية من حصة كردي من الطائفة السنية ورئاسة البرلمان من حصة عربي من الطائفة السنية ورئاسة الحكومة من حصة عربي من الطائفة الشيعية.وهكذا توزعت المناصب الوزارية إلى حد ما على أساس طائفي أو عرقي. وقيل حينها إن العراقيين قد أخذوا من الأمثلة الإقليمية أسوأها ولذلك نجد أن العراق كلما حصلت انتخابات نيابية أو محاولة تشكيل حكومة جديدة يشهد أزمات وعراقيل تكبّل البلد وتمنع انطلاق دورة الحياة السياسية الطبيعية.
لبنان بعد سبعة أشهر بلا حكومة جديدة، والأمور مرشحة لمزيد من التعقيد والخطورة بحيث أن الوضع الاقتصادي للبلاد لا يحتمل، ولبنان ينوء تحت أعباء وديون وتراجع فرص العمل وعبء اللاجئين السوريين الذين يزيدون على مليوني لاجئ.
لكن المشكلة الأساسية في لبنان التي اقتدى بها العراق هي النظام الطائفي الذي يكبل كل دورة الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
تعيش الطوائف في لبنان هاجس الخوف من الآخر. وبعدما كان المسيحيون يشكلون أغلبية سكانية أصبحوا أقلية لا يزيد عددها على الثلاثين في المئة وربما أقل من عدد السكان. وبعدما كان المسلمون يندرجون في الفعل السياسي تحت عباءة المارونية السياسية وأوامرها على امتداد عقود ما بعد الاستقلال أصبحوا الغالبية وأصبحوا طرفي الصراع السياسي والاجتماعي بعد اتفاق الطائف من عام 1990 الذي أزاح المسيحيين من موقع الثقل الذي انتقل إلى المسلمين.
لكن المشكلة أصبحت أكثر تشعباً مع ازدياد التناحر الإقليمي بين المشاريع الإقليمية والتي اكتسبت في جانب منها الطابع المذهبي مما انعكس على لبنان وواقعه. مع ذلك فإن العلة الحقيقية تكمن في الداخل في أساس بنية النظام. لذلك فإن حكومات ما بعد الطائف لم تكن تتشكل إلا بفضل وجود مرجعية سياسية إقليمية واحدة هي سوريا المفوّضة من قبل اللاعبين الإقليميين والدوليين.
ولكن بعد خروج القوات السورية من لبنان عام 2005 انكشف «الواقع اللبناني» على توزيع للصلاحيات والسلطات يحتاج إلى معجزة للتوفيق فيما بينها. والنصوص الدستورية كانت تساعد على هذه الأزمات. فرئيس الحكومة المكلف لا سقف زمنياً لتشكيل حكومته حتى لو استمر ذلك سنوات. ورئيس الجمهورية مثلاً ملزم بتوقيع القوانين خلال أسبوعين فيما لا مهلة للوزير، الأقل رتبة بكثير من رئيس الجمهورية، لتوقيع مثل هذه القوانين.
وفي البلدان الديمقراطية الطبيعية لا تحتاج هذه الثغرات لإيجاد حلول لها سوى جلسة قصيرة للبرلمان لتعديل هذه النصوص. لكن بما أن في لبنان كل شيء موزّع على أساس طائفي بما في ذلك كل قطاعات الخدمات مثل الكهرباء والنفايات كما التعليم، فإن أي تعديل دستوري مهما كان صغيراً يحتاج إلى حسابات طائفية خارج أي منطق وعقلانية.
لذلك فإن البلدان التي لا تعرف مواطنية فعلية والتي تنطلق في أنظمتها وقوانينها من القاعدة الطائفية محكوم عليها بالموت السياسي والتعثر الاقتصادي والاحتقان الاجتماعي والحروب الأهلية المتقطعة أو المفتوحة. وما لم تخرج الطائفية والمذهبية والانتماء العرقي من الحسابات المؤسِّسة للأنظمة بل حتى للدول فلا يمكن الحديث عن استقرار هذه الدول، فكيف بتقدمها.