تقزيم الإنسان والصور الموحشة

15-12-2018
د.نسيم الخوري

تسابق زعماء الأحزاب المتجذّرون في التاريخ الاشتراكي والديغولي والتجمّع الوطني إلى ارتداء أحذيةٍ تنزلق معهم، لا فرنسا وحدها ولا رئيسها إيمانويل ماكرون، بل أوروبا الموحّدة، نحو التشبّه بإيطاليا وتحديداً بروما التي بدأت التفكير بمداواة ارتخاء مفاصل أوروبا. وعلى وقع مظاهرات التأهّب الأصفر، وفي اللحظة السياسية الحرجة، راحت الذاكرة الفرنسية تستعيد بغرابة صورة ماكسيمليان روبسبيير (1758-1794 )، كرمز لعهد الإرهاب في التاريخ الذي أعدم 6 آلاف فرنسي من أعداء الثورة في أسبوع، بالتزامن مع الإرهاب الذي أطلّ مجدّداً من ساحة الميلاد في ستراسبورغ، مطلقاً النار على المولود في المذود الفرنسي البارد.
ورحت أستعيد صورتين تجمعان بين 1789 و2018:
الصورة الأولى: قالت سيدة فرنسيّة عبر الشاشات السبت الماضي، بأنّها جاءت بالسترة الصفراء الفاقعة اللون نحو الشانزيليزيه؛ كي يرانا الرئيس ماكرون مباشرةً أو تلتفت الدولة إلينا. تنزع هذه الصورة قشور «الحضارات التقنيّة» وأزماتها، وبؤس الإنسان المعاصر الذي يبدو وكأنّه بلغ حتّى في باريس وعواصم أوروبا زمناً حافلاً بالوحشة والأزمات، وكأنّه غير مرئي وهائم وحيداً في صحراء شاسعة قاحلة «لا يرى أحد فيها أحداً» كما قال الشاعر الفرنسي فلوبير، ولا يلتفت فيها أحد لأحد حتّى إذا أحسّ به أو سمع صوته أو صراخه. يمكننا سجن مصطلح الحضارة التقنيّة بين قوسين؛ بقصد إعلان سقوط الحضارات وانتفائها بل انتحارها لصالح التوازنات الاقتصادية الكبرى الخارجة عن القرارات المركزية والإدارات الحازمة للدول بقدر ما يتوقّف مستقبلها على ما يعرف ب«الأسواق الدولية»، التي ترعى فيها قطعان الدول، وتتزاحم وفق آليات يبدو الإنسان العادي فيها مغموراً، وقد طمست ملامحه الإنسانية في عصر العولمة.
هنا تقيم الأزمات المعاصرة، وعبرها يمكن فهم الكثير من الانتفاضات والثورات إلى حدود المغالاة في العنف، عندما يرى الإنسان نفسه مقشّراً عارياً في بلاد تغالبها الشكوى العارمة من النمو الضعيف في اقتصاد مشرّع الأبواب منفتح، وعبر مجتمعات متنوّعة وواهنة ديمغرافياً مفتّتة ومشرّعة الأذرع لاستقطاب النازحين والأيدي العاملة. مجتمعات يديرها مسؤولون وخبراء (انظروا لهذا المصطلح الذي يرتّب أعباء مالية هائلة على الحكومات والدول والشعوب) توسّعت حدقاتهم باعتماد استراتيجيات طويلة مملّة في شأن أزمات ومشكلات بسيطة ملحّة، تتعاقب عبرها العقود والحكومات، وتتراكم ملفات الفضائح والفساد.
وقد لا يدرك الحاكم خطورة الأفكار والخطب وتطلّعاته إلى الخارج، التي ما عادت ترضي المواطنين الذين يعانون النزوح الريفي وجنون «حضارة الاستهلاك» التي أفرزتها العولمة وروّجت لها وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وارتفاع مستوى المعيشة، وتبدّل فكرة الراحة والسعادة التي تجذب الجميع نحو الاسترخاء المستحيل والبطالة والتخلّي عن المعايير والقيم التي كانت في ما مضى تروي الجسم الاجتماعي.
كان يجب تنظيف الساحات وإزالة الركام وتقدير الأضرار المؤقّتة في باريس؛ حتّى نعيد تركيب صورة باريس والرئيس ماكرون الجديد بالأسود والأبيض. إلى متى يمكن للحاكم إشاحة نظره أو التفكير العميق في طبيعة الأزمة الثقافية لا الحضارية القاسية التي يعيشها ويجتازها المواطن، في عصر تسقط فيها الحدود وهمياً بين الدول، وتتداخل الثقافات والأفكار والتجارب، وتتقارب في ما كتب عنه كولن ولسن بعنوان «الإنسان اللامنتمي». ماذا يعني الانتماء لإنسانٍ لا تراه الدولة؛ إذ خرجت من أناسها نحو العالم وأناسهم؟
الصورة الثانية: لازمتني أيضاً صورة القائد نابليون بونابرت، أمام العالم أجمع، عندما سحب من بين يدي بابا روما التاج التقليدي المرصّع إذ كان يهمّ، كما العادة، لرفعه فوق رأس نابليون؛ ليتوّجه ثمّ يعلنه إمبراطوراً. سحب نابليون التاج ووضعه هو بكلتا يديه فوق رأسه، لينزع بهذا الحدث التاريخي عن وجه النهضة الأوروبية سلطات اللاهوت المطلقة، وكأنّه يعلن اللحظة الجديدة القائلة بحداثة أوروبا، التي باشرت نهضتها في التمييز بين الفلسفة والدين والإنسانيّة والمسيحية.
كانت تلك المرحلة برمزيتها تطمح إلى جعل التقدّم والحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية عقيدة جديدة، باحثة عن توفير السعادة باعتماد مسيرة العقلانية الإنسانية، وتعميم الرخاء على وجه الأرض. في المقابل، أورثت المغالاة في العقلانية مغالاة إيمانية مكايدة أو مناهضة، كما يحصل اليوم في أوروبا، عبر مظاهر التعصب والانشداد السياسي والردّة الدينية نحو المغالاة والتعصب والانغلاق ونبذ الآخر.
الخلاصة، عاد الإيمان يحاشر العقل، وتجوب الأصوليات المجتمعات المتنوعة، بما يجعلنا نفكّر في طرح أزمات غير قابلة للحسم، مثل مستقبل الاستمرار في تعميم العقل، ولو أدّى ذلك إلى تهديد الخصوصيات الدينية، ومقارعة الاستبداد، أو مثل المجازفة المستحيلة المجنونة، عبر الدعوات إلى التخلّي عن إفرازات الثورات التكنولوجية الهائلة التي قزّمت الإنسان.