قرية رُجال وهمم الرجال!

04-12-2018

المكان يظل جمادا، مهما كانت مميزاته وموارده، فقيمته تساوي تلك المميزات والموارد، ولا يأخذ المكان قيمته الكبرى إلا بإنسانه، فهو الروح التي تظل تعطي للمكان القيمة الحقيقية، ومهما كانت مميزات المكان المهجور فإنه يشعرنا بالوحشة، فلو تأملنا الأماكن والقرى والمنازل والقصور التي يهجرها سكانها فإن مشاعر الوحشة والحزن والشجن ورائحة الموت تظل مهيمنة على المكان.

هذه المشاعر لم تمر بي حينما جاست بنا السيارات خلال محافظة رجال ألمع، وكذلك حين جاست أقدامي قرية رُجال الأثرية ضمن الوفد الإعلامي الذي نظمته الهيئة العامة للسياحة، ممثلة في مؤسسة رونق الإبداع ورعاية شركة بازار السعودية، ضمن خطوات الهيئة الفاعلة لتسجيل القرية الأثرية ضمن التراث العالمي باليونيسكو، تلك المشاعر لم تمر بي لأن إنسان محافظة رجال ألمع تشبث بمكانه، فخلال الجبال الشاهقة والشعاب العميقة لم نشعر بالوحشة؛ لأنها تعج بالحياة في مشهد مغاير لكثير من القرى التي باتت أطلالا (تكسر الخاطر).

في قرية رُجال التراثية، سجل إنسان رجال ألمع تحديا لا يجسد إلا معاني الحب والانتماء والولاء العميق للمكان، ولاء يستوقف كل أحاسيسك ومشاعرك، ويستحث تفكيرك في معنى (همة الرجال) التي شبهها ولي العهد بجبل طويق، فالقرية الأثرية بمبانيها الحجرية الشاهقة التي تصل إلى خمسة طوابق على سقوف خشبية، كانت آيلة للسقوط، وقد تهدم بعضها، وكانت خطرة على المتجول فيها كما حدث للدكتور أحمد التيهاني وسلمه الله حين حاول تصويرها بكاميرا التلفزيون السعودي عام 1410هـ، لكن رجلا واحدا يدعى طرشي الصغيّر تمثل بقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه «رُبّ همة أحيت أمة» وأحيا بهمته الصلبة همم الآخرين، فتأملوا كيف وصلت الشرارة التي أطلقها قبل 34 عاما إلى العالمية اليوم.

قصة العم طرشي تستحق التأمل، فمنزله المجاور للقرية، ورؤيته اليومية لتلك المباني الأثرية الشاهقة، بذكرياتها العميقة، وجذورها التاريخية التي تصل إلى تسعة قرون، جعلته يفكر في طريقة للمحافظة عليها، فطلب من الآخرين مساعدته في ترميمها، ولم يستجيبوا، وحين لم ينفع القول، بادر إلى الفعل، فاستأجر عمالا على حسابه، وبدأ في ترميم أول القصور، فأوجس الناس ريبة، لربما تحركه مطامع شخصية، لكن بعدما أتم ترميم القصر الأول، رأى الناس ما فعله الرجل، وتيقنوا من نقاء سريرته، فآمنوا بدعوته العملية المؤثرة، وساهموا في ترميم المكان قصرا قصرا، مما جعل العم طرشي ينقش على جدار متحفه الحجري، بحجر المرو (رُبّ همة أحيت أمة).

وحين استقبل أمير منطقة عسير فيصل بن خالد الوفد الإعلامي، ثمن وأثنى على ما قام به الأهالي، وشهد لهم بالفضل، وهي الرواية المتداولة، فقد قدح العم طرشي شرارة العناية بالقرية منذ عام 1406هـ، واستمر الأهالي في العناية بالقرية حتى تبنتها الهيئة العامة للسياحة فتحركت كل الجهات المسؤولة وعلى رأسها إمارة المنطقة في منظومة واحدة (عالية الهمة) حسبما لمسناه من كل المسؤولين الذين قابلناهم، فإصرارهم لا يوصف في سبيل تسجيل القرية ضمن التراث العالمي، لتصبح وجهة سياحية عالمية، وهي حقيقة بذلك؛ لقيمتها التاريخية العميقة، ومميزات المكان الطبيعية وخضرته الساحرة، وقبل كل هذا إنسان محافظة رجال ألمع صلب الهمة، طلق المحيا.

كم من مكان في ربوع الوطن يستحق العناية، وهذا سبب كتابة هذه المقالة، فالعم طرشي قد نال تكريم قومه وتكريم الجهات الرسمية، ويستحق تكريما أكثر لأنه رجل ملهم، وهذا الإلهام ما تحاول مقالتي نقله، لربما كانت جسرا لعبارة (رب همة أحيت أمة) لنرى أماكن أخرى في الوطن تتنافس على (العالمية)، وليست (صعبة قوية) بهمم الرجال وعزائمهم (الطويقية).

ahmad_helali@