ليس من مات واستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء محبرة وقلم

14-11-2018

مشعل عثمان السعيد

هذا البيت من الابيات المشهورة، وعندما نتأمله قليلا نطرح على انفسنا سؤالا لا يخلو من الحيرة: كيف يكون المرء ميتا وهو لا يزال حيا، ومن هو ميت الاحياء الذي اشار اليه هذا الشاعر؟ والحقيقة ان ميت الاحياء موجود في كل زمان ومكان، فما اكثر الاحياء الذين هم في الحقيقة مثل الاموات، وهم ساقطو المهمة ومن ينطبق عليهم المثل القائل: لا في العير ولا في النفير، لا تعرفهم الا نساؤهم، هؤلاء الناس سماهم قطري بن الفجاءة سقط المتاع فقال:
وما للمرء خير في حياة
اذا ما عد من سقط المتاع
وبيت الشعر المشار اليه في البداية بيت فخر وحماسة واعتزاز بالنفس، والعرب كانوا كذلك فإذا لم يكن للمرء افعال يذكر بها فما الفائدة من حياته؟ وبعد ان منّ الله تعالى على هذه الامة بالاسلام اصبحت المآثر الصالحة ذكرا للمؤمن في حياته وبعد مماته، سئل الصحابي عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن ميت الاحياء فقال٬: الذي لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، اما بيت الشعر فيقوله الفارس الشاعر عدي بن الرعلاء الغساني بعد انتصار الغساسنة على المناذرة في وقعة “عين اباغ” الشهيرة، والرعلاء ام هذا الشاعر، نسب اليها دون ابيه “وهي بفتح الراء وسكون العين بعدهما لام بالاف ممدودة” هكذا ضبط الاسم العسكري، اما معركة “عين اباغ” فهي من ايام الجاهلية المشهورة بين المنذر بن ماء المساء اللخمي وبين الحارث الاعرج بن ابي شمر جبلة الغساني وكان المنذر بن ماء السماء سار من الحيرة في معد كلها حتى نزل بعين اباغ بذات الخيار، وارسل الى الحارث الاعرج ملك العرب بالشام، إما أن تعطيني الفدية فأنصرف عنك بجنودي وإما ان تأذن بحرب، فأرسل اليه الحارث انظرنا ننظر في امرنا، فجمع عساكره وسار نحو المنذر، وارسل اليه يقول له: انا شيخان فلا نهلك جنودي وجنودك، ولكن يخرج رجل من ولدي ويخرج رجل من ولدك فمن قتل خرج عوضه اخر واذا فني اولادنا خرجت انا اليك فمن قتل صاحبه ذهب بالملك، فتعاهدا على ذلك، فعمد المنذر الى رجل من شجعان اصحابه فأمره ان يخرج بين الصفين ويظهر انه ابن المنذر، فلما خرج الرجل اخرج اليه ابنه ابا كوب، فلما رآه رجع الى ابيه وقال: ان هذا الرجل ليس بابن المنذر انما هو عبده او بعض اصحابه الشجعان, فقال له الحارث: يا بني, أجزعت من الموت؟ ما كان الشيخ ليغدر, فعاد اليه وقاتله فقتله الفارس وألقى رأسه بين يدي المنذر وعاد الى الميدان, فأمر الحارث ابنا له آخر بقتاله والاخذ بثأر اخيه, فلما واقفه رجع الى ابيه وقال: يا ابت, هذا والله عبدالمنذر, فقال: يا بني ما كان الشيخ ليغدر, فعاد اليه فقتله ايضا, فرأى ذلك فارس من فرسان المنذر وهو شمر بن عمرو الحنفي, وكانت امه غسانية, فجاء الى المنذر وقال له: ايها الملكح, ان الغدر ليس من شيم الملوك, ولا الكرام, وقد غدرت بابن عمك
دفعتين, فغضب الملك وامر باخراجه, فلحق بعسكر الحارث واخبره بغدر المنذر, فقال له الحارث: سل حاجتك فقال شمر: حلتك وخلتك “اي لباسك
الفاخر ومصاحبتك”: فقال: هذا لك ولما كان الغد حرض الحارث اصحابه, وكان في اربعين الفا واصطفوا للقتال, ثم اقتتلوا قتالا شديدا, فقتل المنذر وهزمت جيوشه, فامر الحارث بابنيه القتيلين فحملا على بعير
بمنزله العدلين, وجعل المنذر فوقهما وقال: “يا لعلاوة دون العدلين” فذهبت مثلا ثم سار الحارث الى الحيرة فنهبها واحرقها, ودفن ابنيه بها وبنى الغرينين
عليهما في قول وفي ذلك يقول عدي بن الرعلاء يذكر هذا اليوم:
ربما ضربة بسيف صقيل
دون بصرى وطعنة نجلاء
وغموس تضل فيها يد الاسي
ويعيي طبيبها بالدواء
رفعوا راية الضراب والوا
ليذودن سامرا الملحاء
فصبرن النفوس للطعن حتى
جرت الخيل بيننا في الدماء
ليس من مات فاستراح بميت
انما الميت ميت الاحياء
انما الميت من يعيش ذليلا
سيئا باله قليل الرجاء
ومكان المعركة واد وراء الانبار على طريق الفرات الى الشام وملوك غسان نواب قيصر على الشام,
وهم ستة وثلاثون ملكا او لهم جدهم الاكبر: جفنة بن عمرو 265 – 220م واخرهم جبلة بن الايهم 638 – 632م اما الحارث الاعرج فقد حكم منذ عام 529م الى العام 569 وقد عاصر النبي عليه الصلاة والسلام وبعث له
كتابا يدعوه الى الاسلام مع شجاع بن وهب يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله ا لى “الحارث بن ابي شمر” سلام على من اتبع الهدى وآمن به وصدق واني ادعوك الى ان تؤمن بالله وحده لا شريك له يبقى لك ملكك وختم الكتاب فرج شجاع بن وهب بالكتاب بغوطة دمشق وانتظر الاذن واقام على بابه يومين او ثلاثة ثم قال للحاجب اني رسول, رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاذن له بعد ايام فدفعت اليه الكتاب فقرأة ثم رمى به وقال: من ينتزع مني ملكي انني مسافر اليه, فاسلم حاجبه “مري” ولم يسلم الحارث.

كاتب كويتي