لماذا تقيم أمريكا أسواراً مع العالم؟

14-11-2018
عاطف الغمري

بعض المؤرخين وخبراء السياسة في الولايات المتحدة - ومن خلال تشخيص استمر سنوات - يرون أن العقل الأمريكي عامة، يعاني ازدواجية في التفكير، بين استحواذ النزعة إلى الهيمنة على الخيال الرسمي للسياسة الأمريكية، وهو تعبير أطلقه البروفيسور ديفيد كاليو في كتابه «حماقة القوة»، وبين ضرورات تعامل الولايات المتحدة كدولة مع قوى دولية صعدت اقتصادياً وسياسياً إلى مستوى التنافس مع الولايات المتحدة، ليس فقط على مصادر التقدم والقوة، بل أيضاً على النفوذ الاستراتيجي عالمياً.
وتستمد المكونات التاريخية للعقل الأمريكي مضمونها من مبدأ التفوق Preponderance، وهو المبدأ الذي كان قد تغلغل في الفكر الاستراتيجي الأمريكي، حتى من قبل بدء استراتيجية الاحتواء عقب الحرب العالمية الثانية عام 1945، وتتويج أمريكا قوة مهيمنة على المسرح العالمي.
وكما تقول البروفيسور مارلين يونج، إن ديك تشيني الذي كان نائباً للرئيس جورج بوش قالها صراحة: «نحن الخيار الأفضل والأخير للكرة الأرضية». وإن آخرين غيره أعربوا عن اعتقادهم بأن الأمريكي هو القادر على أن يقيم مجتمعاً يكون هو الأفضل والأكثر سعادة في العالم.
ومبدأ التفوق مستوحى من التراث الأمريكي في السياسة الخارجية، والذي اشتقت منه فكرة الهيمنة. وهو مبدأ ظاهر في طبيعة العقل الأمريكي المأخوذ إلى فكرة تسيطر عليه وتجعله مقتنعاً بأن بلاده هي الأكبر والأقوى، وأن العالم خارجها صغير وضئيل، وأن المكانة التي تشغلها كقوة عظمى مهيمنة، هي حقيقة يصعب التخلي عنها أو تصور زوالها.
فالأمريكيون عاشوا قرناً بكامله، أحيطوا فيه بكل ما يرسخ في عقولهم هذه الفكرة، التي نبتت في التربة السياسية والنفسية منذ ظهور مصطلح القرن الأمريكي عام 1914. وإن كانت بذرتها قد غرست قبل ذلك بسنوات طويلة. لكن أمريكا وجدت نفسها تتعامل مع عالم جديد ومتغير، تنافسها فيه قوى أخرى، استطاعت أن تكسر شوكة مبدأ من مبادئ استراتيجية السياسة الخارجية، يقول نحن لن نسمح بظهور أية قوة دولية أو إقليمية منافسة لنا.
وبناء على ذلك، أخذت تظهر في الولايات المتحدة آراء لمؤرخين ولخبراء كبار في مجالات السياسة الخارجية، تدعو لاستيعاب الولايات المتحدة لما يجري من تحولات في العالم؛ لأنها لو تجاهلتها، فسوف يكون من نتائجه اصطدام المصالح الأمريكية بالواقع الجديد والمتغير في العالم، وفي ظروف أصبحت هي نفسها تحتاج لعلاقات تعاون ومشاركة مع الدول الجديدة الصاعدة، للتصدي للمشكلات التي تهدد الأمن القومي الأمريكي ذاته. وإن التحدي الذي تواجهه الولايات المتحدة، يتمثل في قدرتها على التواؤم مع التحولات في البيئة العالمية، بالشكل الذي يساعدها على الاحتفاظ بقوتها، ومكانتها كقوة رئيسية في العالم، وليست قوة مهيمنة.
هنا يستحق التأمل ما سبق أن كتبه والتر ليبمان أشهر الصحفيين الأمريكيين في الستينات، من أن الخيال الأمريكي الذي رسم ملامحه تراث أجيال وأجيال، قد ترك للأمريكيين صورة وحيدة لأنفسهم، لم يتصوروا أن تكون مختلفة عما هي عليه. وإن خيالنا هذا قد خلق بيئة زائفة تفصل بيننا وبين العالم.
صحيح أن الولايات المتحدة عبر عقود طويلة كانت تسيطر على الاقتصاد، والسياسة، والثقافة، وتمثل منابرها في هذه المجالات، مصادر لإلهام دول وشعوب كثيرة، لكن تلك حقائق لم تعد تتوافر لها اليوم بنفس القوة والجاذبية، وحيث يواجهها في ميادينها منافسون، أبدعوا في بلادهم مراكز قادرة على الجذب والمنافسة. وهذا لا يعني أن أمريكا لم تعد الأغنى والأقوى، لكنه يعني أن هناك أجيالاً جديدة من شعوب ودول، لم تعد لديها لهفة على أن تحذو حذو النموذج الأمريكي.
من ثم صار لكل من هذين الاتجاهين في الولايات المتحدة، صوته وصداه الذي يدق أسماع الأمريكيين. أحدهما يتشبث بما خلفه له التراث، والآخر ينبه إلى أن لكل عصر ظروفه وموازينه، وأن الولايات المتحدة يجب أن تهيّئ نفسها لعالم لابد أن يكون لها فيه شركاء متساوون وليسوا خاضعين للهيمنة.