الديمقراطية في عالم متحوّل
منذ إنشاء واعتماد الديمقراطية في القرن الخامس قبل الميلاد، في أثينا وولايات المدن اليونانية، كأداة إدارة مجتمعية كلية قائمة على «حكم الشعب لنفسه»، وبعد الطريق الطويل والوعر الذي قطعته مسيرة تطبيقاتها العالمية، يبدو اليوم جلياً، التفاوت والتباين المختلف الدرجات لمدى نجاح تطبيقها في بلدان العالم قاطبة، والتي تبنتها في مراحل تاريخية مختلفة، بعضها متقدم وبعضها الآخر متأخر جداً، وبعضها الآخر لا زال حتى اليوم، لم يحسم بعد موقفه منها، والتحاقه بركبها العالمي الذي صار يعتمدها مرجعية في كافة مناحي حياته.
فهي متقدمة، ناضجة ومستقرة، في بلدان الغرب التي نقلتها عبر الخبرة التاريخية المتراكمة، إلى مرتبة الديمقراطية الليبرالية، وذلك بتأكيدها إضافة إلى وظيفتها التحكيمية المرجعية حماية حقوق الأفراد والأقليات، وهي ديمقراطيات صاعدة في البلدان التي لم تصل بعد إلى مرحلة تضمين دساتيرها حماية مثل هذه الحقوق، وهي ديمقراطية لا زال الشكل يتفوق على مضمونها في البلدان التي قررت تبنّيها حديثاً، إنما مع قصر إطار ممارستها على مفهومها ومبتغاها الضيقين، اللذين لا يتجاوزان البناء المعماري المخصص لمداولاتها المكرسة افتراضاً لقضايا التشريع والرقابة.
ممارسة الديمقراطية على أرض الواقع في حواضنها الأولى، تتخطى بكثير إطارها «التقني»، كمنتَج نهائي، إلى فضاء أرحب، أحالها إلى نظام اجتماعي متكامل وإلى ثقافة مجتمع، مناقبية وسياسية وأخلاقية، تتجلى فيها مفاهيم ابتدائية تتعلق بالمستويات المختلفة لأنماط العيش، الفردي والأسري والمجتمعي، والسلوك الإنساني البيني (بين أفراد المجتمع)، كاسرة بذلك الفجوة بين هذا المستوى البنيوي التحتي لجوهر ممارستها، وبين مفهوم منتَجها النهائي المتمثل في القبول العام بمبدئها الأساس، وهو تداول السلطة سلمياً وبصورة دورية.
فهناك من تُوصف تجربته بالديمقراطية الشعبية كالصين الشعبية، بينما يضعها أكاديميو علم الاجتماع السياسي في خانة دكتاتورية الحزب الواحد والطبقة الاجتماعية التي تنتظمه، وهناك من بدأ يعطي توصيفات مختلفة لطبيعة الديمقراطية الأمريكية وإلى حد ما الأوروبية، بأنها ديمقراطية أوليغارشية، أو ديمقراطية حكم الأثرياء (بلوتوقراطية)، حيث تستحوذ على السلطة والثروة حفنة من كبار الأثرياء ومخدوميهم داخل مؤسسة الحكم.
نحن في عالمنا العربي للأسف الشديد لم نصل بعد إلى الطور الذي يكون فيه القانون (والقصد ينصرف هنا إلى كافة القوانين المنظمة لعلاقاتنا المجتمعية ولشؤون حياتنا اليومية، الصغيرة منها والكبيرة)، هو الفيصل الحاسم والمقرر لكل مسلكياتنا وممارساتنا، جميعاً دون استثناء ومن دون تمييز، ولم نصل بعد إلى مرحلة احترام هذا القانون بقناعة المجتمعات عالية التنظيم والانضباط، كما هي مجتمعات جنوب شرقي آسيا على سبيل المثال.
ولعلنا نزعم والحال هذه أننا بحاجة إلى تحول نوعي في الثقافة العربية السائدة.. تحول يطال كافة مناحي حياتنا ومناهج تفكيرنا. ويكفي للدلالة على الذروة الارتدادية الثقافية والمناقبية، القيمية بضمنها، التي بلغتها بعض مجتمعاتنا العربية التذكير فقط بما أضحينا عليه من انكشاف تام أمام أنظار العالم كله، بأن لدينا بيئات تفرخ وتنتج كائنات بشرية بعشرات الآلاف بل ربما بالملايين، لا تتورع عن الاندساس وسط الناس الأبرياء وتفجير أنفسها فيهم باسم التقرب لله.
ومن الذروة إلى المستويات الأدنى من علاقتنا بمحيطنا: لننظر مثلاً إلى كيفية تعامل الناس مع العمران العام، الشوارع والطرقات، وكيف يلقون فيها بقايا أطعمتهم ونفاياتهم بصورة لا تنم عن وجود إحساس بالمكان وأُناسه العابرين، وكيف يتعاملون مع أصول الدولة وملكياتها العامة، وكيف يتبرمون ويتأففون من الوفاء بواجباتهم في مقابل زعيقهم وهم يطالبون بحقوقهم؟
ثم انظروا أيضاً إلى مشاهد البرامج الحوارية التي تضج بها القنوات الفضائية، والتي يُقدّم فيها الضيوف على أنهم مثقفون وأكاديميون وخبراء اختصاصيون في الشؤون كذا وكذا، وقارنوا بينهم وبين أقرانهم ليس في الدول المتقدمة، وإنما في الدول النامية الأخرى، التي أنتجت تجارب ديمقراطية مختلفة في مستوى النضج، وسترون الفجوة الواسعة بين الحالتين.. في السلوك قبل الاختصاص.
alsayyadm@yahoo.com