السفينة أكواريوس

17-10-2018

من هم أولئك الذين يجوبون البحر الأبيض المتوسط مثل أرواح منقذة؟ رجال ونساء من المتطوعين سواء من العمال أو المتفرغين أو حتى طلبة الجامعات أو أصحاب المهن الأساسية كالطب والتمريض تركوا وراءهم الأهل والطمأنينة والحياة المرفهة وكرسوا حياتهم للإبحار على متن مركب يحمل اسماً تحول نتيجة تفانيهم لأسطورة في الشجاعة والبذل بلا حدود، إنها السفينة أكواريوس The Aquarius، السفينة المجهزة بأغذية ومعدات ومرافق إنقاذ وعناية طبية جسدية وسيكولوجية خاصة، والتي تم استئجارها من قبل المنظمة البحرية الأوروبية للأغراض الإنسانية SOS Méditerranée بالتعاون مع منظمة أطباء بلا حدود، هذه التنظيمات التي تسعى بكل إمكاناتها لإنقاذ المهاجرين واللاجئين الذين يسقطون ضحايا لأهوال البحر الأبيض في محاولاتهم اليائسة للفرار من مجازر الحروب وقسوة الفقر والمجاعات الناجمة عن الكوارث الطبيعية.

 المرعب أن هناك تهميشاً لحقيقة تلك المأساة وعدد الضحايا الذين يبتلعهم البحر قبل أن يبلغوا شواطئ الفردوس الموعود «أوروبا» التي تتصاعد مؤخراً وتشتد حدة الأصوات المعارضة والمطالبة بالتشدد في إغلاق الأبواب بوجه طالبي النجاة أولئك. لا يصدق العقل الإحصائيات المبدئية التي تقول: إنه قد ذهب خلال شهري يونيه ويوليه الماضيين عدد 721 شخصاً، بمعدل 12 إنساناً يومياً، وذلك بسبب أحوال الطقس المتقلبة في البحر الأبيض والتي لا تصمد أمامها الزوارق البدائية المحملة بأضعاف استيعابها من الأطفال والرجال والنساء اليائسين. مهاجرون من شمال إفريقيا نقطة انطلاقهم الشواطئ الليبية، أو مهاجرون قادمون من آسيا من دول مثل الباكستان، يضربون في البحر بغير دراية كافية بالتغيرات السياسية المناهضة في الشواطئ الأوروبية التي ينشدونها، الشواطئ التي قد تردهم لأهوال البحر بلا شفقة كما حدث مؤخراً في إيطاليا.

سفينة الإنقاذ أكواريوس ليست وحدها بل هناك غيرها من سفن الإنقاذ التطوعية تناضل في البحر لالتقاط من تخونه المراكب وتقذفه الأمواج، هناك أيضاً طائرات شراعية متطوعة تجوب سماء البحر مستطلعة مواقع زوارق المهاجرين وفيما إذا كانوا في خطر؛ وذلك بغرض تنبيه السفن للمسارعة في إنقاذهم. هذه السفن المناضلة نفسها تواجه قدراً لا يُستهان به من الأخطار، ليس فقط بمواجهة سطوة البحر وإنما يضاف لذلك القوانين التي نشأت مؤخراً لتمنعها من العمل قريباً من الشواطئ الليبية مُنْطَلَق تلك الهجرات، مما يجعلها مهددة بالقصف أو التوقيف، لكن كل تلك العقبات لا تثني العاملين عليها، والذين يمضون في مهام الاستطلاع والإنقاذ بلا هوادة.

بحر يترقط بأساور ملونة في أيدي مواطني اللاوطن أولئك، أساور ظاهرها مشرق وباطنها وجع يؤرخ لجنسيات تمحى، ولأعمار افتراضية، ولجروح تغور جسداً ونفساً. 

جهود تخجلنا في غمرة جهلنا بحقيقة ما يقع أو بالأحرى لا مبالاتنا، لكأن ما يحدث في البحر الأبيض يحدث في مجرة بعيدة ولكائنات تتحول مع تكرار فنائها لكائنات افتراضية تعاني مشاهد على شاشة أو ضمن لعبة من ألعاب الفيديو.. مجرد مشاهد لا توجعنا، وربما توجع لكن لا تدفعنا لمبادرة ما، ولا حتى لتقديم منحة مادية بسيطة.