الفداوي محبرة وقلم

16-10-2018

مشعل عثمان السعيد

الفداوي، كلمة لم يعد لها وجود على الاطلاق، اندثرت هذه الكلمة وباتت ماضيا منسيا، وهي مفرد الجمع منها: الفداوية بالشدة المفتوحة على حرف الياء، أما أصل هذه الكلمة فيدور حول الفداء والفدائي ومن يفتدي غيره بنفسه، وهم مجموعة من الرجال يشكلون الحماية لشخص ذي أهمية قصوى في الماضي، وهم رهن اشارة هذه الشخصية يطيعونه فورا وبلا تردد وينفذون امره، ومن صفاتهم أنهم لا يتكلمون وهم مجهزون بالاسلحة والذخيرة التي توائم ذلك الزمان يطلقون النار بالاشارة، ويتقاضون راتبا شهريا، أما وجباتهم فيتناولونها في منزل أو قصر من يعملون عنده، ولهم مسؤول مباشر بمثابة الرئيس، هذا المسؤول هو همزة الوصل بينهم وبين الامير أو الشيخ أو الحاكم، واذا وقف هؤلاء الفداوية بين يدي الحاكم لا ينطقون ببنت شفة، يطيعونه طاعة عمياء.
وقد التقيت ببعضهم أواخر ثمانينات القرن الماضي، وفهمت منهم كيفية عملهم ومدته ومتى يعودون الى منازلهم، وهم غالبا ما ينامون في قصر الحاكم، وإذا سار، ساروا بين يديه وخلفه واحيانا عن يمينه وشماله. أما عندنا في الكويت فقد ألحق هؤلاء الرجال بمراكز الحدود، وهناك من يذكر انهم يشبهون الى حد كبير الحرس الأميري، ولا اؤيد هذا التفسير وان كان يقارب الواقع، وقد ذكرت لكم انهم لا يتكلمون على الاطلاق الا اذا كلمهم الحاكم، ولا يتجاوز ردهم: حاضر وابشر، واذا قصروا في واجبهم يحاسب مسؤولهم على تقصيرهم، وهو بدوره يحاسبهم وربما سرحهم من الخدمة، بعض الناس يعتقد أن كلمة فداوي عيب بحق من يحمل هذه الصفة، والواقع انه عمل ومصدر رزق كغيره من الاعمال وكان مقر الفداوية في الماضي ومكان تواجدهم قصر نايف، وقصر دسمان على الغالب، وجلهم من أبناء البادية الذين هجروا الصحراء وفضلوا الحاضرة عليها.
يقول أحد شعراء الغزل:
“خذوني فداوي عندكم خادم (ن) ممنون.. تحت أمركم يا سيد البيض ممنوني”
من هذا البيت يظهر أن الفداوي طوع أمر سيده بكل ما يأمره أقرب الكلمات والألفاظ العامية من فداوي قولهم: فدوة، فدوى، فديتك، أما فدوة، فهي تعني “لا أهمية لما ضاع، أنت اغلى من كل شيء” وهي في اللغة تعني “فداء لك” اما اذا قلنا “فدوى كاسم، فهو اسم عربي أصيل، يكتب بطريقتين، الأولى “فدوى” والثانية “فدوة”، ومن معانيه: الفداء والتضحية والانقاذ والكرم والعطاء وبذل النفس، وهو اسم علم، والفداء ايضا: فك الاسير بشيمة أو قيمة، والفدية، المال الذي يدفع للأسير نظير اطلاقه من اسره، والعرب يقولون: فديتك -، فداك أبي وأمي، – فداك روحي، ذكر الزهري المحدث ان الصحابي الجليل سعد بن ابي وقاص رضي الله عنه وارضاه، رمى يوم أحد الف سهم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: ارم فداك أبي وأمي وكان سعد يفخر بذلك ويقول: ما جمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أبويه لأحد قبلي، وسعد رضي الله عنه، من اخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالعودة الى كلمة (فداوية) أقول: هناك ذكراً لهم في عصر سلاطين مصر الشراكسة قبيل ضم الخلافة العثمانية لمصر والشام وتوابعهما، إلا أن فداوية ذاك العصر ليسوا كالفداوية الذين حدثتكم عنهم، لانهم يقومون بمهام خطرة نظير مبلغا كبيرا من المال، أهمها اغتيال الشخصيات البارزة في ذاك العهد، وهو أشبه ما يكون بمن يضع كفنه على يده.
ووجدت وأنا ابحث في كلمة فداوي أنهم موجودون منذ العصر المملوكي، لنفس المعنى الذي ذكرته، يقول صاحب معجم الالفاظ التاريخية في العصر المملوكي ما معناه: الفداوية “هكذا قال بالجمع” الرجل الذي يقوم بقتل شخص معرضا نفسه للقتل، لتنفيذ عمله وقال ابن خلدون: الفداوية هم الذين يأخذون “فدية انفسهم” للاستماتة في مقاصد من يستعملهم.
وعموما لا يبالي الفداوي أن يؤدي رسالته ولو قتل بعدها فهو “انتحاري” وكان لملوك الاسلام عناية كبيرة بهم ولأهميتهم القصوى كانوا في عصر المماليك يتبعون رئيس ديوان الانشاء مباشرة، وفي مصر هناك قبة بالعباسية تسمى “قبة الفداوية” بناها الأمير “يشبك الدوادار” خلال الفترة: “884 – 886 هـ”، شمال حي الحسينية، وكان السلطان وقتها: “قايتباي” وهو التاسع عشر من ملوك المماليك توفي عام 801 هـ.
جف القلم ونشفت المحبرة في أمان الله.
كاتب كويتي