الابتعاث بين قوسين فاحصين!

16-10-2018

ما يزال موضوع الابتعاث الخارجي مقلقا، ومحيرا، ومصدر القلق فيه يأتي من عدة أسباب، أهمها: عزوف الجامعات عن مخرجاتها الداخلية، وحرصها على استقطاب المبتعثين، ثم موضوع الكفاءة العلمية لبعض المبتعثين لأسباب معقدة، تحدثت عن بعضها في المقالة الماضية، وصلتني بعدها تباريح عدد من المبتعثين الجادين.

بعض المبتعثين يقول إن مشكلة الابتعاث الحقيقية تأتي من موضوع القبول المتروك للطالب، وعليه هو أن يأتي بالقبول من الجامعات المعتمدة، وكثير من تلك الجامعات، خاصة ما يسمونها (الجامعات التجارية) لا يهمها إلا الكسب المالي، فهي كبعض المدارس الأهلية، تأخذ مبالغ طائلة، ولا تقدم محتوى علميا حقيقيا للطالب، مما جعل كثيرا من المبتعثين ينهالون عليها، خاصة في بريطانيا، وبعضهم يرى أنه يفضل ترك القبول للطالب هروبا من فرض بعض اللجان الأكاديمية على الطالب جامعات أقل مما يطمح إليه هو، وهنا نحتاج تدخل الوزارة وحل هذا المشكل.

ومبتعثون آخرون في أمريكا يتحدثون عن تسرب بعض الطلاب من البرامج الجادة إلى (البرامج الدولية) التي تقدمها بعض الجامعات لأبناء الدول الفقيرة، فمحتواها العلمي لا يرقى إلى المأمول ولا يدرس فيها الطالب الأمريكي؛ لأنها لا تؤهله كما يطمح، ومع أن هذه البرامج ممنوعة من الملحقية إلا أن ثمة من يسمح لبعض الطلاب بالالتحاق، (والله العالم بكيفية اختراق هذا المنع والتغاضي عنه)، ثم تأتي الرواية المحيرة أن طلابا يحصلون على الماجستير والدكتوراه في ثلاث سنوات! ولا أدري عن نوع الدراسة لهاتين الدرجتين في هذه (الومضة الزمنية) القصيرة جدا، ناهيك عن اتهامات كثيرة لمعاهد اللغة، وضعف مخرجات كثير منها، ولن أعيد الحديث عن لصوص العلم والمرتزقة، وقد تحدثت عنهم في المقالة السابقة.

مبتعثون يتحدثون بحرقة عن الملحقيات الثقافية وبعض الممارسات المشبوهة، فيتهمونها بالانحياز والمناطقية، وبعضهم يتهمها بالتقصير، وبعضهم يراها تشدد على فئات وتتغاضى عن أخرى، إلى درجة اتهامها بالفساد، وهذا ما يجب أن تلتفت إليه الوزارة و(نزاهة) أيضا، خاصة وبعض الملحقيات في الدول العظمى يمضي على بعض العاملين فيها أعوام طويلة تتجاوز العقد، وهذا ـ في نظري ـ يستحق المراجعة، فالوطن مليء بالكفاءات، ويجب أن تعطى الفرص لآخرين يجددون دماء تلك المؤسسات المهمة، فطول المدة مدعاة للخمول والدعة، و(التمرير) أحيانا.

ولعل من الأمور المقلقة كثيرا في موضوع الملحقيات أنها تستعين بمشرفين (عرب) يحملون جنسيات دول عظمى، بعضهم لا صلة له بالعمل الأكاديمي، ويحكي بعض المبتعثين أن المشرف الواحد يتولى شؤون مئة طالب وأكثر، ولو أوكلت الملحقيات هذا الشأن إلى السعوديين، خاصة دارسي الدكتوراه الأقرب لزملائهم لكان أجدى، وتخففت من أولئك المشرفين الذين يتهم المبتعثون بعضهم بالتسلط.

كذلك نسمع اليوم عن توأمة جامعاتنا مع جامعات عالمية مرموقة، لكن جامعاتنا الموقرة تترك للمبتعث البحث عن قبول في جامعة معتمدة، ولا تستغل توأمتها مع الجامعات الأخرى للاشتراط على مبتعثها أن يدرس في تلك الجامعة، فالتوأمة تدل على أن الجامعة السعودية اطلعت على البرامج العلمية للجامعة الأخرى، واقتنعت بما لديها، فما المانع أن يكون ابتعاثها إلى هذه الجامعة وفق التخصصات المطلوبة، ومع التوأم الآخر (الجامعة الأخرى) في التخصصات الأخرى، وهكذا، وضرورة متابعة مبتعثيها بآلية شفافة محكمة.

أما المبتعثون فلسنا بحاجة إلى الابتعاث في كل التخصصات، ويجب أن تضيق التخصصات بعد كل هذه المدة من الابتعاث، خاصة في التخصصات النظرية، فمن الواجب على الوزارة أن تراجع قوائم الجامعات المعتمدة وتقلصها إلى عدد محدد من الجامعات المتقدمة جدا في الدول العظمى، لأن بعض الجامعات يرتفع ترتيبها بسبب تنوع الجنسيات فيها، لكن برامجها قديمة ويتكاثر حولها المرتزقة، ومثلها معاهد اللغة، خاصة للمبتعثين على نفقة الدولة والجامعات، وأن تمنع الوزارة بحزم أي تجاوز لهذه القائمة، فالجامعات التجارية لا تقدم المحتوى العلمي المأمول، وتحوم حولها شبه كثيرة، توجب إعادة النظر باستمرار فيها، ومكافحتها بتصميم برامج قياس دورية لمخرجاتها.

يقول المثل الشعبي (السيل يتبع الوطاء)، وطبيعة بعض الناس خاصة (رخو الهمة) أن يتبع قاعدة (سبّع نفسك) الدارجة بين بعض المبتعثين، وحين يجد منفذا يحقق له ذلك سينطلق فيه دون مبالاة، وما تكالب المبتعثين على الجامعات التجارية، ومعاهد اللغة الميسرة إلا دليل واضح على ذلك، وواجب الجهات الأكاديمية والتعليمية والرقابية أن تغلق كل منفذ لا يحقق أهداف الابتعاث ومقاصده التي صمم من أجلها. والله المستعان.