الفرزدق يهجو إبليس محبرة وقلم

15-10-2018

مشعل عثمان السعيد

“أطعتك يا إبليس سبعين حجة
فلما انتهى شيبي وتمّ تمامي”
هذا الشاعر مقر أنه عصى الله سبعين عاماً، وهذا اعتراف صريح منه، وما دام أن صاحب هذا البيت الفرزدق فلا شك أن ذنوبه كثيرة، ومنها: قذف المحصنات، وهجاء الناس، وغزله الصريح، ومعلوم انه كان قليل البضاعة في دينه، إلا أنه هنا هجا إبليس الذي أغواه كل هذه السنين الطويلة، وثاب إليه رشده وعاد الى جادة الصواب وندم على ما فرط في حق الله تعالى، وأدرك أن لا منجى من الله إلا إليه فقال:
فررت إلى ربي وأيقنت انني
ملاق لأيام المنون حمامي
تاب الفرزدق واناب وتوجه الى ربه قبل ان تدركه منيته، لعل الله ان يتوب عليه ويغفر له ما مضى من ذنوبه، تأملوا كيف وصف الفرزدق ما كان يفعله إبليس فيه حيث يقول:
ألا طال ما قد بتّ يوضع ناقتي
أبو الجن إبليس بغير خطام
يظل يمنيني على الرحل واركاً
يكون ورائي مرة وأمامي
يبشرني أن لن أموت وأنه
سيخلدني في جنة وسلام
والفرزدق أيها الأحبة ينتمي الى أسرة تعد ذروة تميم وكاهلها وسنامها، فهو همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم التميمي، وجده صعصعة وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي جده صعصعة يقول الفرزدق:
وجدي الذي منع الوائدات
وأحيا الوئيد فلم يوأد
لأن جده اول من افتدى الموؤودات بماله، ولما جاء الاسلام كان صعصعة قد احيا ثلاثمئة وستين موؤودة، اما الفرزدق فقد ولد عام 38 هـ في كاظمة، وسمي الفرزدق لضخامته وتجهم وجهه، ومعنى الفرزدق الرغيف، وذكر أن ولادة الفرزدق قبل هذا التاريخ لانه رأى الامام علي وأوصى أبوه غالب بأن يجعله حافظاً للقرآن، والفرزدق هو القائل للحسين بن علي حينما توجه للعراق وقد سأله عن حال الناس:
القلوب معك، والسيوف عليك. وفي رواية أخرى أن الحسين قال له: أخبرني عن الناس خلفك؟ قال: الخبير سألت، قلوب الناس معك، وأسيافهم عليك، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء. فقال له الحسين رضي الله عنه وأرضاه: صدقت، لله الأمر، وكل يوم هو في شأن.
وكان الفرزدق المقدم على شعراء عصره هو وجرير بن عطية الخطفي.
وهناك قصة روتها أغلب المصادر التاريخية ويرجى له فيها الخير، فقد روي ان هشام بن عبدالملك بن مروان حج ولم يكن تولى الخلافة بعد، فأراد ان يصل الحجر الأسود فلم يستطع ذلك من شدة الزحام وكثرة الناس، فوقف جانباً ينظر إلى الناس، ويتعجب من كثرتهم وجنود الشام تحيط به، وقريب منه الفرزدق، فدخل البيت زين العابدين علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم وارضاهم، وهو اجمل الناس وأطيبهم ريحاً، ظاهر الخشوع، فما ان رآه الناس حتى أفرجوا له احتراما واجلالا، فاستلم الحجر، وصلى في مقام ابراهيم عليه السلام، فأعجب به أهل الشام، وسأل هشاما أحدهم:
من هذا أصلح الله الأمير؟ فقال: لا اعرفه، وهو به عارف. فقال الفرزدق: انا اعرفه فقال له الشامي: من هو يا أبا فراس؟ فانشأ يقول:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم
هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا ابن فاطمة ان كنت جاهله
بجده أنبياء الله قد ختموا
إذا رأته قريش قال قائلها
إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
وليس قولك من هذا بضائره
العرب تعرف من أنكرت والعجم
كلتا يديه غياث عم نفعهما
يستوكفان ولا يعروهما عدم
سهل الخليقة لا تخشى بوادره
يزينه اثنان: حسن الخلق والشيم
حمال أثقال أقوام إذا افتدحوا
حلو الشمائل تحلو عنده نعم
يغضى حياء ويغضى من مهابته
فما يكلم إلا حين يبتسم
وتلتها أبيات كثيرة. فغضب هشام غضباً شديداً وامر بحبس الفرزدق بسجن “عسفان” بين مكة والمدينة، فلما بلغ ذلك علي بن الحسين بعث إليه باثنى عشر ألف درهم، فلم يقبلها وقال: انما قلت ما قلت لله عز وجل ونصرة للحق، وقياماً بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم، في ذريته، ولست أعتاض عن ذلك بشيء، فأرسل إليه علي بن الحسين: قدعلم الله تعالى صدق نيتك في ذلك، وأقسمت عليك بالله لتقبلها. فتقبلها منه، وقال يهجو هشاماً:
أيحبسني بين المدينة والتي
إليها قلوب الناس يهوي منيبها
يقلب رأساً لم يكن رأس سيد
وعينين حولاوين باد عيوبها
ولما احتضر الفرزدق نظر الى من حوله وقال:
أروني من يقوم لكم مقامي
إذا ما الأمر جل عن الخطاب
الى من تفزعون إذا حثوتم
بأديكم علي من التراب
فقال ابنه: الى الله تعالى، وكان قد اصابته “ذات الجنب” فوصف له ان يشرب النفط الابيض، فسقاه ابنه “لبطة” فقال لابنه: يا بني عجلت لأبيك شراب اهل النار، وقد اختلف الناس في العام الذي توفي فيه والاكثر انه بعد 110 هـ.
وعن ابن عائشة انه قال: مات الفرزدق وجرير في سنة 110هــ، مات الفرزدق اولا ثم مات جرير بعده بستة اشهر، وهو العام الذي توفي فيه الحسن البصري ومحمد بن سبرين.
دمتم سالمين.
كاتب كويتي