التضليل الإعلامي.. دراسة حالة

14-10-2018

يعتمد الإعلام على مبادئ أساسية، تأتي في مقدمتها الحرية والاستقلالية والمهنية، هذه المبادئ لا يقتصر أثرها فقط على ضبط البيئة الإعلامية وتقنينها، وتأطير العمل الإعلامي، وتوجيه الممارسين للإعلام، بل تحكم أيضا طبيعة العلاقة بين وسائل الإعلام والجماهير، وتشكل اللبنات الأولى لبناء السمعة الطيبة والمصداقية وتحقيق الانتشار.

وغالبا ما تدعي كل وسيلة إعلامية العمل بحرية واستقلالية ومهنية، ومن ذلك وسائل الإعلام التي تتخذ من الإخبار والتثقيف مجالا للعمل، ومن أبرز الأمثلة الفضائيات التلفزيونية الإخبارية، التي يتمثل رأسمالها في إقناع الجمهور بأنها منصة إعلامية مستقلة وموضوعية، حتى يمكنها تسويق وبيع خدماتها الإخبارية لأكبر عدد ممكن من الجمهور، وبالتالي الحصول على الحد الأدنى من الاستمرارية والتطور.

في منتصف التسعينات الماضية، وبالتزامن مع إغلاق القسم العربي لقناة (بي بي سي) البريطانية، ومع الأسف، تأسست قناة (الجزيرة) رافعة شعارات مثل (الرأي والرأي الآخر)، و(منبر من لا منبر له)، وغيرها من الشعارات التي تم تكرارها عن قصد وتخطيط، والتأكيد عليها في محتوى القناة حتى اليوم، من أجل غرسها في ذهنية الجماهير العربية، لستر الأجندة الحقيقية التي تحكم الخدمات والمنتجات الإعلامية التي تقدمها القناة.

وعلى مدى أكثر من عقدين تبنت قناة (الجزيرة) سياقا تختلط فيه الحقيقة بالأكاذيب، ويقدم فيها الرأي الشخصي على هيئة خبر أو معلومة، ويصنع فيها المحتوى القائم على توظيف المعتقدات والشحن العاطفي، بهدف توجيه الرأي العام وتهييجه تجاه قضية ما، حتى ولو كانت من نسج الخيال.

ومن الواضح أن (الجزيرة) استطاعت العبث بالمبادئ التوجيهية المنظمة للعمل الإعلامي المهني، والتلاعب بالرأي العام والاستخفاف به، وتجنيد أتباع لها داخل المجتمعات العربية، للقيام بمهام نيابة عن القناة، لأجل زيادة فرص نجاح تضليل الجمهور المستهدف، باستخدام وجوه وشخصيات وجمعيات ومنظمات بأسماء محلية تستطيع تمرير أجندة القناة وتسويقها داخل مجتمعاتها المحلية، تضليلا لعقول البشر، وتطويعا لإرادة الجماهير ضد مصالحهم.

ومن المؤكد أن قناة (الجزيرة) نجحت في استقطاب بعض المواهب المتخصصة في العمل الإعلامي، لبناء سمعة جيدة وصورة ذهنية إيجابية للمؤسسة الإعلامية، وغرس مصطلحات المهنية والموضوعية والحياد في جميع الرسائل الاتصالية الصادرة عن القناة، فنجاح التضليل الإعلامي يعتمد على صعوبة اكتشافه من قبل الجماهير، بل وتصديقهم بأنه الحقيقة والمنطق والواقع.

واستثمرت القناة كثيرا في صناعة التضليل الإعلامي، مستفيدة من ضعف وعي الجمهور، وندرة النقد الإعلامي في المنطقة العربية، مستغلة الانفجار المعلوماتي وتسارع التطور التقني، وعدم القدرة على التثبت من المصادر العديدة والمتنوعة، في ظل بيئة إعلامية متداخلة الأدوار، وضعيفة البنية، ومتباينة المعايير، تجعل من الحكم على دقة المادة الإعلامية أمرا بالغ الصعوبة، وتجعل من التحقق من هوية المصدر خطوة مثقلة بالتعقيد.

ولكن الأزمات السياسية وحدها التي تضع الفضائيات الإخبارية على المحك، فتسقط معها كل الأقنعة، وتتبخر كافة الشعارات، وتنكشف خلالها المواقف المدفونة تحت الرماد. وآخر الأمثلة وأبرزها تدويل قضية جمال خاشقجي، مما دفع قناة (الجزيرة) لرمي شعاراتها، المزيفة أصلا، عرض الحائط، وإظهار المحتوى القبيح الذي كان يتم تجميله بمحسنات لغوية وبمؤثرات تقنية، لإخفاء أجندة الشر والفتنة التي كانت الدافع من وراء تأسيسها.

وخلال أقل من أسبوعين سقطت ورقة التوت الأخيرة لقناة (الجزيرة)، وانكشفت جميع أوراقها المختبئة تحت الطاولة، ورمى العاملون فيها أقنعة المهنية والموضوعية التي كانوا يستترون خلفها لإيهام غير المختصين والمهتمين بالإعلام والسياسة، واستخدموا جميع وسائل التضليل الإعلامي، بهدف الإساءة إلى السعودية وتشويه سمعتها، باختلاق ونشر الأخبار والمعلومات الكاذبة، وإبراز العناوين المخادعة، وتوجيه الاتهامات دون دليل، وافتعال الأدلة المزيفة، والإحالة إلى مصادر الكترونية تابعة للقناة، والنقل عن شخصيات مجهولة، ضمن حملة موجهة هدفها تهييج الرأي العام وتجييشه لاتخاذ موقف معاد للمملكة.

ونتيجة مواصلة (الجزيرة) التسلل والتغلغل داخل بعض المؤسسات الإعلامية في العالم، من خلال عقد الشراكات النفعية، وتبادل المعلومات والمصادر الإخبارية، والدفاع عن حرية التعبير في عدد من القضايا المختارة بعناية، استطاعت القناة التأثير على عدد من وسائل الإعلام العريقة في العالم، مثل (الواشنطن بوست) و(النيويورك تايمز)، للتأكيد على أن كتابات وآراء جمال خاشقجي السبب وراء اختفائه في تركيا، فضلا عن التأثير في وجدان بعض الشخصيات الرسمية والاجتماعية في الغرب، مما دفعهم لإعلان آراء واتخاذ مواقف غير سليمة مع السعودية.

shakerabutaleb@