منصتان.. وإرهاب واحد!

19-08-2018
كمال الجزولي

في الرابع من أغسطس الجاري وقف الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو يلقي خطاباً من على «منصة» الاحتفال بيوم الجيش، أمام عرض عسكري خاص، وسط العاصمة كراكاس، حين حلقت فوق المكان طائرتان من دون طيار، محملتان بشحنتين ناسفتين زنة كل منهما كيلوجرام، قبل أن تنفجر إحداهما، ولكن بشيء من الانحراف عن هدفها المحدد، حيث لم يصب الرئيس، وإن أصيب سبعة من حرّاسه. هكذا قال الإعلام الحكومي، متهماً كولومبيا إقليمياً، وأمريكا عالمياً، بينما لم تتح مشاهدة الطائرتين عبر البث التلفزيوني الذي ما لبث أن انقطع فور أن بدأ انفراط طوابير الجند، في ذات اللحظة التي رفع فيها مادورو، ومن معه، عيونهم نحو السماء قبيل الانفجار مباشرة!
مادورو، سائق الحافلة السابق، البالغ من العمر خمساً وخمسين سنة، وصاحب التاريخ الطويل في النضال النقابي، بدأ وزيراً للخارجية في حكومة هوجو شافيز. ثم، عند وفاة الأخير، في مارس 2013م، تولى الرئاسة مكانه، ريثما أجريت انتخابات فاز بها في إبريل من العام نفسه. ومع أن عهده شهد أزمة اقتصادية خانقة، حتى لقد بلغت نسبة التضخم مليون في المئة، إلا أنه فاز، مجدداً، في انتخابات مايو 2018م، بدورة رئاسية أخرى لمدة 6 سنوات.
هكذا، وعلى كثرة ما شهد العالم الثالث من عنف استُهدفت خلاله رموز سياسية بالاغتيال، إلا أنها المرة الثانية التي يفضي فيها اليأس بمعارضة «عالمثالثية» إلى تجريب التخلص من رأس النظام بالتصفية الجسدية، في آخر مكان يمكن أن يصلح لذلك.. «المنصة» التي ينتصب عليها وسط جنوده شاكي السلاح، في لحظة من أكثر لحظات الضبط توتراً باليقظة، وفي درجة من أقصى درجات الاستعداد احتشاداً بالانتباه! في المرة الأولى انطلقت المقذوفات، أرض أرض، إلى صدر الرئيس الأسبق أنور السادات على منصة القاهرة عام 1981م؛ وفي هذه المرة استهدفت المقذوفات، جو أرض، جسد الرئيس نيكولاس مادورو على منصة كراكاس قبل نحو من أربعة عقود.. مع الفارق، بطبيعة الحال، بين المستهدفين، والمستهدفين، و«المنصتين»!
الحادثتان، وإن اختلفتا في تفاصيلهما، إلا أنهما تشتركان في صفتهما. حادثة السادات أشبعت بحثاً، وتحقيقاً، ومحاكمة لمرتكبيها الإسلامويين، فما من جديد يمكن إضافته بشأنها. أما حادثة مادورو، فرغم أن التحقيق بشأنها ما يزال في بدايته، إلاّ أن معطياتها المتوفرة تشير، بعيداً عن يومية التحري، وقريباً من التحليل السياسي، إلى عاملين رئيسيين مرتدفين على ظهري بعضهما البعض، وهما طبيعة النظام نفسه، من جهة، وطبيعة خصوماته السياسية من جهة أخرى. فقد أسس شافيز هذا النظام بعد فوزه في انتخابات 1998م، على نهج الديموقراطية الاجتماعية، بمعول إيديولوجي عام لا يستهدف اجتثاث البناء الرأسمالي من جذوره، كما في الثورة الاشتراكية، لكنه يحد من غلوائه بتعديلات تؤسس لدولة الرفاه العام، على قيم العدالة الاجتماعية والديمقراطية الليبرالية، ما يجد التعبير الأكمل عنه، حالياً، في نموذج البناء الاقتصادي والاجتماعي للبلدان الاسكندنافية.
أما من وجه لاتيني خاص فقد ظل هذا النظام يرفع، طوال العقدين الماضيين، راية التضامن السياسي والتكامل الاقتصادي بين بلدان القارة، حتى لقد اعتبرت الشافيزية، التي ورث مادورو نظامها هذا، تجديداً حقيقياً للبوليفارية (نسبة إلى سيمون بوليفار، قائد التحرر اللاتيني، 1783م - 1830م).
وإذن، لئن كان خلف «إرهاب منصة القاهرة» معارضون إسلامويون لسياسة السادات، فإن مادورو قد اتهم دوائر خارجية، أقربها كولومبيا المجاورة، بتدبير «حادث منصة كاراكاس»، بسبب عدائها لنهج فنزويلا السياسي. وبصرف النظر عما ستكشف عنه التحقيقات الجارية، فقد أثبتت الخبرات المتراكمة أن الإرهاب ظاهرة عالمية، وأنه لا دين له، ولا جنسية واحدة، ولا طائفة محددة. وقد تتنوع دوافعه من أقصى العوامل الشخصية، النفسية والإعلامية، مثلاً، إلى أقصى العوامل المجتمعية، الاقتصادية، والسياسية، والتاريخية، والإثنية. كما قد تتباين بيئات الإرهاب نفسها، من أول القهر، والقمع، والاستبداد، إلى آخر التآمر على الأنظمة الوطنية، ودعم أعداء الشعوب، ومناصرة الحكومات الفاسدة. ومن ثم فإن نوعية الإرهابيين قد تتفاوت ما بين أفراد، وعصابات، وحكومات، وأحزاب سياسية. لذا فمحاربته تعني، بالضرورة، وضع ذلك كله في الاعتبار.

kgizouli@gmail.com