نهاية العثمانية الجديدة

19-08-2018
عبدالله السناوي

كأنه زلزال ضرب تركيا في عمق ثقتها بمستقبلها وتوابعه تمتد إلى الإقليم وملفاته المشتعلة بالنيران.
لا يمكن تلخيص الزلزال التركي في الأزمة الاقتصادية المتفاقمة التي تبدت في انهيار عملتها إلى النصف تقريباً في نصف عام. كما لا يمكن رد أسبابه إلى محض نظرية مؤامرة.
في الحديث المفرط عن المؤامرات هروب من الأزمة حقيقتها ودواعيها. كيف تقوض النموذج التركي إلى حدود الانهيار؟
السؤال يستدعي مراجعة تجربة رجب طيب أردوغان في الحكم حتى يكون النظر في موضعه والسيناريوهات المحتملة توافق ما قد يحدث فعلاً.
يستلفت الانتباه ذلك التناقض الفادح بين صورة تركيا مطلع القرن الحالي والصورة التي أصبحت عليها الآن.
في الصورة الأولى بدت دولة إقليمية كبرى تتطلع إلى أن يكون القرن الحادي والعشرون في الشرق الأوسط تركيا، حسب الأدبيات التي شاعت وقتها وعقدت تحت لافتاتها ندوات ومؤتمرات وحلقت رهانات وتصورات. وفي الصورة الثانية تبدو دولة مترنحة اقتصادها عليل وشعبها منقسم ومستقبلها غامض.
ما بين الصورتين كانت «العثمانية الجديدة» عنوان النموذج التركي الذي عرض نفسه على الإقليم، مستنداً إلى سمات رئيسية زكته وأضفت عليه جاذبيته قبل أن تعصف به الحوادث إلى النهايات المحتمة.
أولى تلك السمات تحسن اقتصادي لافت وضع تركيا في المرتبة السابعة أوروبياً والسابعة عشرة عالمياً. وثانيها تعددية سياسية ونظام برلماني على قدر من الاستقرار وتداول سلطة وحريات عامة وصحفية. وثالثها الحفاظ على علمانية الدولة التي أسسها عام 1923 مصطفى كمال أتاتورك على أنقاض الخلافة العثمانية. ورابعها السعي بالوسائل السياسية إلى دمج الأقلية الكردية في بنية الحياة السياسية وتخفيض كلفة الأعمال الإرهابية المنسوبة إلى حزب العمال الكردستاني. وخامسها الاقتراب من قضايا العالم العربي، وأهمها القضية الفلسطينية، دون التورط في أية اشتباكات وأزمات مع أية أطراف إقليمية.
وفّر سقوط بغداد تحت الاحتلال الأمريكي عام (2003) داعياً إضافياً للتقدم إلى الإقليم لملء الفراغ في شرق العالم العربي بقوة نموذجها الاقتصادي والسياسي القوة الناعمة لا الخشنة.
كان أحمد داود أوغلو رئيس الحكومة ووزير الخارجية السابق المفكر الأول ل«العثمانية الجديدة» وصاحب شعار «صفر مشاكل».
لم يعد ممكناً الحديث الآن عن «عثمانية جديدة» تلتزم بالقواعد الديمقراطية ولا عن شعار «صفر مشاكل»، حيث تخيم على كل جوانب الحياة الداخلية التركية، وليس الاقتصاد وحده، وفي كل ملفات الإقليم المشتعلة، وليس في ملف بعينه، وفي العلاقات مع الغرب وحلفه العسكري «الناتو»، وليست الولايات المتحدة وحدها.
كانت ثورات ما يسمى «الربيع العربي»، التي نشأت عام (2011) وسرعان ما اختطفت أو استحالت إلى صدامات مسلحة أنهكت وشردت شعوبها، على عكس مقصدها في طلب الديمقراطية ودولة القانون الاختبار الحقيقي ل«العثمانية الجديدة» بكل سماتها.
تورطت تركيا بأثر اعتقادات رئيسها السياسية والتنظيمية في دعم جماعات إرهابية، ووفّرت الملاذات الآمنة والغطاء السياسي والإعلامي، دربت المقاتلين ومررت السلاح عبر الشمال السوري.
بقدر آخر دخلت طرفاً مباشراً في الأزمة الليبية من باب النكايات السياسية بعد (30) يونيو/حزيران (2013)، التي أطاحت بجماعة «الإخوان المسلمين» من السلطة في مصر.
بالبدايات دعا «أردوغان» الإسلاميين إلى بناء دولة علمانية على النموذج التركي، كما صرح بالقاهرة في سبتمبر/أيلول (2011) غير أنه انقلب بعد وقت لم يطل على ما دعا إليه.
أغوته فكرة عودة الخلافة، إسطنبول عاصمتها وهو الخليفة.
بدا ذلك إعلاناً سياسياً وفكرياً بنهاية «العثمانية الجديدة» والانقلاب على الإرث العلماني التركي.
رغم ذلك بقيت الفكرة في المجال العام التركي دون صدقيتها، فقد تقوضت السمات التي صاحبتها كلها دون استثناء.
كشفت تداعيات الانقلاب العسكري الفاشل في يوليو/تموز (2016) حقيقة الالتزامات وطبيعة التفكير، وما خلف «العثمانية الجديدة» من اعتقادات ورؤى.
انتهكت دولة القانون، زج بعشرات الآلاف خلف جدران المعتقلات، فصلت أعداد أكبر من وظائفهم في الجيش والقضاء والجامعات والمدارس والدواوين الحكومية وأغلق المجال العام أمام حريات التعبير والتنوع السياسي، حتى أصبحت تركيا في ذيل التصنيف الدولي للحريات الصحفية.
بذريعة مقاومة «الانقلاب العسكري على الديمقراطية» قام هو بانقلاب مدني عليها، فكل من يختلف معه متهم بالضلوع في مؤامرة.
أهان الجيش التركي وأضعف جاهزيته العسكرية، كما لم يحدث من قبل. ودفعه للتدخل في سوريا باسم حماية الأمن القومي من الخطر الإرهابي الكردي، ولذلك تداعياته في أي مدى منظور إذا ما أفلتت الأزمة الاقتصادية من أي قيد. وبذريعة حماية الدولة التركية من أية اهتزازات سياسية جرى تعديل الدستور والتحول إلى «دولة الرجل الواحد».
الأزمة الاقتصادية كاشفة لمأزق الرئيس التركي، لكنها ليست كل الأزمة.
رقم واحد يلخص حجم الأزمة، حيث يبلغ صافي الدين الخارجي (282) مليار دولار ونسبة كبيرة منه يتوجب سدادها في غضون العام الحالي.
خطاب المؤامرة والتعبئة يسود المجال العام التركي، بما يحجب الحقيقة ولا يساعد على تجاوز الأزمة.
التخبط من طبيعة مداهمات الأزمات في بداياتها، غير أنه إذا ما استمر، وهذا غير مستبعد، فإنه ينذر بانهيارات أفدح اقتصادية وغير اقتصادية تضع مستقبل «أردوغان» بين قوسين كبيرين.