كنموذج من أدب الفضائح

17-08-2018

لم ينل الكاتب الفرنسي «بيير كوديرلوس دو لاكلو» مرتبة النبل إلاّ بصعوبة، فقد انتمى إلى أسرة من عامّة الشّعب، وقد أجبره والده ليلتحق بالجيش، لتتغيّر حياته، رغم أنه برع في الريّاضيات ولم يكن يشبه المؤسسة العسكرية في شيء، بل إن البعض صنفوه على أنه عسكري فاشل، وهذا جزء من نقمته على تلك المؤسسة التي سيطر عليها نبلاء فرنسا، وحرمه من الحصول على التقدير الكافي مقابل تفانيه. ولعلّ هذا أهم دافع له للجوء إلى الكتابة ليس هرباً من ثقل البدلة الرسمية والامتثال الأعمى للأوامر، بل هرباً من الشعور بالألم والمذلّة في مواجهة التمييز الطبقي ضده، فكتب الشعر، والأقاصيص الصغيرة، وكتب أشياء لم يهتم بها القرّاء، ولكنّها كانت نابعة من أعماقه الجريحة، وطبّبته بشكل ما، إلى أن كتب «علاقات خطرة»؛ كتاب ضخم من ثلاثة أجزاء، ضمّنه رسائل من مخيلته نسبها لشخصيات شبيهة بتلك الطبقة المخملية في فرنسا والمقربة من الأسرة الحاكمة، وقد تفرّغ لكتابته بعد أن أخذ إجازة ستة أشهر من وظيفته في الجيش، اختلى فيها بنفسه، وصفّى حساباته مع تلك الطبقة..

أثار الكتاب زوبعة من الثرثرة والنّقد والاستهجان، وأطلق عليه وصف «القصة اللاّ أخلاقية» وصُنِّف ضمن الأدب الفضائحي، ولكنّه نقله النّقلة النوعية التي تمنّاها طيلة حياته.

لقد تحقّق له ما أراد، وتخلّص من الشعور بالدونية أمام «نبلاء» تخبّطوا أمام كتابه مثل الطيور الجريحة.

كان ذلك انتصاراً حقيقياً له، بعد أن حاول طيلة حياته أن يكون ملتزماً ونبيلاً في أخلاقه، ولكن الطبقية المريضة آنذاك في فرنسا حرمته الاحترام الذي تمنّاه..

ثم مارس تمرّده بشكل واسع، حين ساند تعليم الفتيات، وتدريب الفتيات ليواجهن الحياة ويساوين الرجال، لا أن يُحضّرن كإناث للزواج والإنجاب وهن مفرغات تماماً من أي تكوين حقيقي لمواجهة صعاب الحياة، كان ذلك انقلاباً حقيقياً في حياته، خاصة حين حضّر لمسيرة نسائية للمطالبة بالخبز قبيل الثورة الشهيرة بفترة قصيرة.

الترجمة العربية لهذا الكتاب الذي يبلغ من العمر أكثر من مئتي عام، صدرت عن منشورات الجمل «بيروت - بغداد» بترجمة جيدة للينا بدر، مرفقة بمقدمة ماتعة كتبها أندريه مالرو سنة 1939، والتي رفعت من شأن العمل وجعلته في قمة السلم الأدبي، كون الرجل صاحب رؤية موسوعية، وناقداً فذاً، وفيلسوفاً، وروائياً أيضاً، وكون الكتاب فيه رؤية نفسية مرعبة للنفس البشرية، كما أرفق الكتاب بتحذير من النّاشر الأستاذ خالد المعالي، فيه رؤية مغايرة لذلك، وله كامل الحق في ذلك، كونه أيضاً واسع الاطلاع، ودقيقاً فيما يُقْدم على نشره، محرّضاً قارئه على عدم أخذ الكتاب كشهادة موثوق فيها عن عصر دو لاكلو.