التفرد الأمريكي وسياسة العقوبات الاقتصادية

18-08-2018
د. ناجي صادق شراب

ما زالت الولايات المتحدة ترى أنها الدولة العظمى الوحيدة المتحكمة والمؤثرة في القرار الدولي، رغم محاولات روسيا استرجاع دور الاتحاد السوفييتي، والعودة بالنظام الدولي إلى القطبية الثنائية. فالولايات المتحدة ما زالت تمارس دورها الأحادي المتفرد في التعامل مع العديد من القضايا والأزمات الدولية، واتخاذ القرارات الفردية في حروبها التجارية مع العديد من الدول، بصرف النظر عن قربها من الولايات المتحدة، وتترجم هذه الرغبة في التفرد ودور الدولة العظمى في العديد من القرارات الاقتصادية، وممارسة سياسة العقوبات الاقتصادية على الدول التي تتعارض سياساتها مع سياسات الولايات المتحدة.
وكبديل لخيار الحرب التي تنأى إدارة ترامب بنفسها عن الانزلاق فيها نظراً لتداعياتها الخطيرة، تلجأ للخيار الاقتصادي باعتباره أحد أهم أشكال القوة الصلبة التي تملكها الولايات المتحدة، ومدعومة بقوتها العسكرية التي ما زالت تشكل القوة الأعظم في العالم. ولذلك يمكن القول إن العقوبات الاقتصادية هي امتداد للسياسة، بمعنى أن الهدف منها تغيير السلوك والسياسات والقرارات السياسية للدول المستهدفة، والولايات المتحدة بلا شك تملك عناصر القوة الصلبة التي تسمح لها بممارسة هذه السياسية الخشنة. واللافت للنظر في سياسة العقوبات الاقتصادية أن إدارة ترامب لم تميز بين الدول الحليفة والشريكة، مثل تركيا والدول الأوروبية، والدول المنافسة مثل روسيا والصين، والدولة الخصم كإيران. وامتدت هذه السياسة حتى على المنظمات الدولية، ووكالاتها، مثل وكالة غوث اللاجئين (الأونروا)، ومنظمة «اليونيسكو». والهدف واضح هو ممارسة الضغط للاستجابة للمصالح الأمريكية. وعلى الرغم من أن ميثاق الأمم المتحدة في الماده41 منه ينص على إمكانية فرض العقوبات الاقتصادية من قبل مجلس الأمن على الدول التي تشكل تهديداً للسلام والأمن العالميين، إلا أن الولايات المتحدة تمارس هذه السياسة منفردة ، وبعيداً عن الإجماع الدولي،ما دفع مستشارة ألمانيا، أنجيلا ميركل، إلى اتهام إدارة الرئيس ترامب بانتهاك النظام الدولي. وهذا ما نلمسه أيضاً في العقوبات التي فرضت على الصين، بحجة السطو الصيني على المنتجات الأمريكية.
لا شك في أن الصين تعتبر منافساً قوياً للولايات المتحدة، وهي تحاول أن تنتزع دوراً قيادياً عالمياً لها. وبالنسبة لروسيا، وهي الدولة المنافسة، فإن الولايات المتحدة فرضت عقوبات اقتصادية عليها في أعقاب ضم روسيا لشبه جزيرة القرم 2014، وبعد الاتهامات المتبادلة بالتدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية، كوسيلة ضغط للرضوخ للمطالب الأمريكية في عدد من الأزمات الإقليمية والدولية. وبالنسبة لإيران تمارس الولايات المتحدة سياسة العقوبات الاقتصادية بهدف كبح جماح سلوك إيران، وتقليص دورها، وذلك من خلال الانسحاب من الاتفاق النووي، وفرض عقوبات جديدة، والتهديد بفرض عقوبات أقسى على الصادرات النفطية والأفراد. والهدف هو دفع إيران للقبول بالتفاوض، ومحاولة خلق قوى معارضه قوية في الداخل لتغيير النظام. أما الدولة الحليفة تركيا، فهذه ليست المرة الأولى التي تمارس عليها عقوبات اقتصادية، كانت المرة الأولى في أعقاب الأزمة القبرصية، أما العقوبات التي فرضت أخيراً فالهدف المعلن منها هو قضية القس الأمريكي المعتقل في أنقرة، والمعارض التركي الموجود في أمريكا فتح الله جولن. حتى السلطة الفلسطينية الضعيفة في مواردها، ولا تملك مواردها الذاتية بسبب الاحتلال «الإسرائيلي»، لم تنج من هذه العقوبات في تقليص وتجميد المساعدات المقدمة، والهدف سياسي، وهو للضغط وقبول ما يعرض عليها من تسوية عبر ما يعرف اليوم ب»صفقة القرن».
هذه السياسة وإن كانت لها تأثيراتها في الدول المستهدفة، خصوصاً في المدى البعيد، لكن يمكن مواجهتها بالمعاملة بالمثل بفرض رسوم على المنتجات الأمريكية، كما رأينا بالنسبة للصين، أو بتشكيل تحالفات اقتصادية جديدة، كما الحال مع «البريكس»، ومنظمة شنغهاي، في مسعى للتعامل بالعملات المحلية كخطوة لفك الارتباط بالدولار، وعدم التعامل به. ويبقى أن خطورة السياسة التي تمارسها الولايات المتحدة تأتي من دولة عظمى تتربع على عرش النظام الدولي، ولا شك في أنها ستدشن لمرحلة جديدة في العلاقات الدولية، وبداية لظهور التعددية القطبية، مع روسيا والصين، وخطورتها أنها قد تؤدي لمزيد من التوتر السياسي، وتفتح الباب أمام الخيار العسكري الذي يمكن أن يعرض السلام والأمن العالميين للخطر، ويضع الجميع أمام بدايات حرب كونية.

drnagishurrab@gmail.com