من يحكم لبنان؟

18-08-2018
د. نسيم الخوري

بصرف النظر عن المناكفات الحزبية والطائفية والمذهبية وتقاتل «الأقوياء» على الوزارات السيادية والخدماتية والعادية والتدخّلات الخارجية الظاهرة والمستترة والتزاحم عند نافذة تشكيل الحكومة لرسم ملامح رئيس جمهورية لبنان المقبل، أتساءل: من يحكم لبنان؟
لا جواب.
يعيش اللبنانيون منذ ال 1989 وكأنهم بلا دستور أو قوانين تكفل حقوقهم ومستقبلهم. انتشلهم هذا التاريخ في مدينة الطائف من الحروب الشرسة المزمنة بين المسلمين والمسيحيين عندما أقرّ البرلمان اللبناني المجدّد لنفسه من 1972 إلى 1992 وبرعاية إقليمية ودولية وأممية، وثيقة الوفاق الوطني/اتّفاق الطائف الذي بات دستوراً جديداً للبلاد، أعاد توزيع السلطات في لبنان، وأبقاه معلّقاً في الاجتهادات والقراءات المتناقضة.
أخرج اتّفاق الطائف الصراع التاريخي بين المسلمين والمسيحيين، إذ أقرّ بالمناصفة بينهما في التمثيل البرلماني والحكومي ووظائف الفئات الإدارية الأولى. كان رفيق الحريري يفاخر بأننا أوقفنا العدّ الطائفي في احتساب اللبنانيين وولجنا مرحلة التنوّع والانصهار الوطني الشاق. أرضى الأمر المسلمين السنّة وأخرجهم من عقدة الغبن والإحباط إلى الفيض في الإمساك بالسلطات التي انتقلت إلى مجلس الوزراء مجتمعاً والذي فيه تتحدّد تلك السلطات وتتبلور، لكن تبعاً لشخصية رئيس الحكومة الذي استطاع عبرها رفيق الحريري استقطاب العديد من أبناء الطوائف الأخرى في «تيّار المستقبل»، كما في تمثيل العديد من اللبنانيين من الطوائف الأخرى في مختلف المناصب.
انتقلت مشاعر الغبن والإحباط المسيحي بقوّة إلى الموارنة همساً أو جهراً، بعدما شعروا بفقدان السلطات وتحديداً سلطات رئيس الجمهورية. ويتحوّل هذا الجهر اليوم إلى مستويات من الخطب والتصريحات النارية والحنين المستحيل في استعادة سلطات الماضي الماروني في حكم لبنان. المستحيل لأنّ نبرة عادت تلوّح بالخروج من المناصفة إلى العددية، حيث يختلّ التوازن في الإنجاب والهجرة، ويتدفّق الشباب على أبواب السفارات يأساً وطلباً لمغادرة لبنان.
تحوّل فتيل الالتهاب التاريخي الطائفي إذاً إلى مستويات أخرى مقلقة من الصراعات والتحالفات بين الأحزاب والميليشيات التي سيطرت على لبنان في الحرب واستمرّت في الإمساك به في السلم برعاية سورية، ووصلنا إلى ما يعرف اليوم بالثنائيات الطائفية المتنافسة والمتحالفة أو المتصارعة مثل الثنائية الدرزية بين الجنبلاطيين والإرسلانيين والثنائية الشيعية الممثّلة بحزب الله وحركة أمل، بصرف النظر عن أعداد الشيعة الآخرين والثنائية المارونية الممثلة بالتيار الوطني الحر والقوّات اللبنانية التي يخاف المسيحيون تذكّرها عبر حروب الإلغاء التي ما زالت تدمغ مناطقهم في كسروان بالخرائب، بصرف النظر عن عشرات الأحزاب المارونية والمسيحية الأخرى، وبصرف النظر عن مجموع أبناء الطوائف المسيحية الأخرى.
لا دستور يطبق في لبنان، لأنّ الأحزاب الطائفية أقوى من الدولة بل هي الدولة، والمنتمون إليها لا يتجاوزون ال 15 في المئة من المواطنين وأقلّ من ذلك بكثير، إذ لطالما تمثّلت أحزاب في البرلمان أو الحكومة، خلال النفوذ السوري المباشر في لبنان، برئيسها وعديد محازبيه وعدد من أقاربه لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين.
من يحكم لبنان اليوم؟ أمراء الحروب والطوائف والمحاصصة.
لا يحكمه رئيس الجمهورية ولا رئيس مجلس النواب ولا رئيس مجلس الوزراء المكلّف، بل الرؤساء الثلاثة مجتمعين ومتناكفين، وتشاركهم الأحزاب. يجتمعون في مقاعد السلطات الديمقراطية الاسمية ويتباعدون مع مناصريهم في ممارسة ترعب المواطنين وتهدّد الاقتصاد والعملة الوطنية والمستقبل.
نصّ دستور الطائف على فصل السلطات وتوازنها وتعاونها، ولم يتمكن أحد من فهم الحدود التي أرساها مونتسكيو بين الأفعال الثلاثة: فصل، تعاون، توازن. يروى هنا أن الخلاف الكبير الذي حصل في الطائف كان في مشاركة النواب رئيسي الجمهورية والحكومة في تشكيل الوزارات، حيث تتمسّك الأحزاب بالجمع بين النيابة والوزارة، بما يؤلف تدخلاً من السلطة التشريعية في أمور السلطات الإجرائية وإبطال دور الرقابة البرلماني وأجهزة الرقابة المنوطة برئيس الوزراء.
كيف يؤلّف رئيس الحكومة بالتعاون مع رئيس الجمهورية حكومته، إذا كان كلّ زعيم حزب مستقوياً بالخارج ويتصرّف بمثابة رئيس جمهورية وبرلمان وحكومة بل أقوى من الثلاثة على التعطيل؟
كيف ينسّق رئيس الحكومة السلطات الإجرائية إذا كان كلّ وزير ممثلاً لرئيس حزبه لا لحزبه، ويعتبر نفسه أقوى من رئيس حكومته، وكلّ الوزراء الممثلين لرؤساء أحزابهم وطوائفهم مجتمعون حول طاولة مجلس الوزراء؟
بات حول الطاولة ثلاثون رئيساً لا وزيراً. وبات الحكم مستحيلاً في لبنان، وغار المواطنون في شقوق الفساد والقهر والطحن والعذاب.
قدّم زعماء الأحزاب وطنهم «بروفا» أي أنموذجاً تجريبياً/تخريبياً ل «الربيع العربي» الذي يغطّي الفصول والأمكنة العربية بالكوارث.
لا اللبنانيون استلّوا العبر وبلغوا المعايير الحضارية في الحكم، ولا العرب استلّوا العبر بدورهم من الحروب المستوردة المتنقلة من دار لدار، حيث لا مستقبل للبنان وللعرب خارج أطر الحوار والتآلف والتفاهم ورسم حدود السلطات والتآلف فيما بينهم.