من لا يرى الواقع لا يرى نفسه

15-08-2018
عبدالله الهدية الشحي

نيكولاس شوفان، جندي فرنسي، ولد عام 1790، خدم في الجيش الأول للجمهورية الفرنسية، ثم في جيش نابليون بونابارت. وجرح في الحروب، كما يقول عن نفسه 17 مرة، ما أدى إلى تشوهه. ومع ذلك بقي مغرماً بوطنيته وولائه المطلق لنابليون، الذي كرمه شخصياً؛ وما أن توفي نابليون، حتى تحولت شخصيته إلى هدف للسخرية، فقد اشتق من اسمه مصطلح الشوفينية الذي يشير إلى الحماسة والعصبية المفرطة، فالشخصية الشوفينية لا تستطيع أن تراجع نفسها، ولو للحظات، لتمحص ما تفعله؛ فهي لا ترى ولا تسمع إلا ما تريد، وهي عمياء البصر والبصيرة، حتى تجاه ما تؤمن به، فهي على يقين تام بأنها الصواب كله دائماً وأبداً، حتى وإن كانت على خطأ، وهي بهذا لا تؤمن بإعادة النظر مرة، أو مجرد الإبصار برهة، في رأيها واتجاهها، وفي رأي غيرها واتجاهه، لأن التفكير خارج اتجاهها الذي يسكنها، أو في نطاق تفكيرها وفكرها الذي ألفته، مرض عضال يجب الابتعاد عنه.
كثيرة هي الشخصيات الشوفينية التي تعشق الماضي، وتتمحور حول ما تريده منه، حتى وإن تجاوزت هذا الماضي الأزمنة والأمكنة، وتغير واقع الحال، في عالم يشهد في كل ثانية منجزاً جديداً، وحالاً أخرى، وواقعاً مبهراً وتغييراً شمولياً، يكاد لا يعرف ليل بارحته، وكثيرة أيضاً تلك الشخصيات الشوفينية التي يكمن سر عظمة القصص لديها، في تكرار تلك القصص التي سمعتها مراراً، فعرفت مبتدأها وخبرها، ولكنها ترغب في سماعها وروايتها مراراً وتكراراً، لهذا تصادر الآخر ولا ترتضي غير واقعها الهلامي، وحالها الخرافية العمياء، المتحيزة إلى ماضيها الذي أكل الدهر منه وشرب، وما أبقى سوى الأطلال التي أصبحت وأضحت وأمست، مصدر غناء وإنشاد، ولاوجود لها ولمن هم من أمثالها من الشخصيات التي تجد نفسها فقط، في موائد منابرها التي أعدتها لنفسها، وفي محافل لقاءاتها الإعلامية التي يجهلها الفضاء العالمي، فهي لا تقتات إلا الوهم والظواهر الصوتية والحقد الدفين على المنجزين والمبدعين. والغريب والعجيب في الأمر هنا، أن هذه الشخصيات تظن أنها تحسن صنعاً، وأن العالم بأسره قد وضع كفيه تحت خديه، للاستماع إلى ما تقول، وهي لا تعلم بأن واقع حالها في عيون العالم، يقول ما قد قيل منذ زمن في مثل هذه الحال:
ما زاد حنّونُ في الإسلامِ خردلةً ولا النصارى بكتْ فقداً لحنّونِ.
يمضي المبدعون بثابت جذورهم ومتحول واقعهم واعتزازهم بماضيهم العريق وفخرهم بحاضرهم البديع والمتجدد، وبرؤيتهم الواضحة والعظيمة، وبحسن تخطيطهم وإتقان منجزهم وسرعة إنجازهم نحو حداثتهم وما بعد حداثتهم، ونحو غدهم المشرق بكل عزم وإصرار، حتى تكون لهم فوق البسيطة وعلى المريخ شواهد وحواضر من صنع عقولهم وسواعدهم، وحتى يكتب التاريخ منجز حضارتهم باستمرار، فهم يؤمنون بأهمية ما يستفاد من الماضي وبقيمة الحاضر وبالغد الأجمل والأروع دائماً؛ فلمثل هؤلاء يصفّق الكون ويرفع قبعة الاحترام وعقال الإجلال، وهو يقول: ليت الشخصيات الشوفينية ترى ببصرها وبصيرتها ما صنع هؤلاء، وليتها قبل هذا تدرك واقع حالها، فمن لا يرى الواقع لا يرى نفسه، ومن لا يرى نفسه لا يعرف قيمة الآخر، ولا يعلم أن في كل شخص تعرفه أشخاصاً لا تعرفهم.

aaa_alhadiya@hotmail.com